خالد بن غانم العلي.. سيرورة التجربة الدستورية في قطر

22 سبتمبر 2024
دمج المؤلف بين ذاتيّته بوصفه فاعلاً دستورياً وخبرته وملاحظته
+ الخط -

عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر كتاب "التجربة الدستورية في قطر" للباحث والمؤرخ القطري خالد بن غانم العلي، والذي يتناول بالدرس والتحليل مسار دولة قطر نحو الدستور.

يتتبّع المؤلف سيرورة التجربة الدستورية إستوغرافيًّا، لاستعراض تاريخٍ راهن ما زالت ملامحه تتكشّف. فبأدوات المؤرّخ، يتناول المؤلف المسألة الدستورية باستعمالِ منهجَين، الأول، الأزمنة الثلاثة عند المؤرخ الفرنسي فيرنان بروديل، وهي: الزمن الثابت المتمثّل في الجغرافيا، والزمن شبه الثابت المتعلّق بالبنى الثقافية والاجتماعية، والزمن المتغيّر المرتبط بالأحداث السياسية، والثاني، التاريخ الاجتماعي والثقافي من خلال دراسة الحالة عند لوسيان فيفر، مستعينًا بأدوات منهج البحث التاريخي التحليلي المقارن للإلمام بالسياقات المتعددة، ولا سيما الكويت والبحرين، وقياس التجربة القطرية عليهما، وتميّزها عنهما. وقد دمج المؤلف بين ذاتيّته بوصفه فاعلاً دستورياً، وخبرته وملاحظته خلال سنين عمله (إذ حصل على عضوية مجلس الشورى القطري)، وصاغها ضمن منهج الملاحظة بالمشاركة، وصقَلَها بهذا الإنتاج الأكاديمي واهتمامه بالتاريخ والدراسات التاريخية.

يتتبّع المؤلف سيرورة التجربة الدستورية إستوغرافيًّا، لاستعراض تاريخٍ راهن ما زالت ملامحه تتكشّف

كما يخوض الكتاب في المحطات الدستورية القطرية، بدءًا من الحراك الدستوري خلال عشرينيات القرن العشرين في أنحاء المنطقة، مروراً بصدور الدساتير في الدول الثلاث. ويلاحظ المؤلف أنّ كثيراً من الكتابات عن بلدان الخليج العربية تتّسم بالتعميم، في حين أثبت تقييمه للتجربة الدستورية القطرية وجود اختلافات بين بلدان الخليج، وأنّ تجاربها الدستورية مرتبطة بسياقات كل بلد. ولذا، يكون من المهم جدًّا دراسة خصوصية كل تجربة بالنظر في السياقات المختلفة لكل مجتمع، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا. وهكذا، بينما حدَّد المؤلف إطاره المكاني في منطقة الخليج، ولا سيما الكويت والبحرين وقطر، فإن إطاره الزماني هو الزمن الطويل؛ إذ يعقد مقارنةً بين حقبتَي الغوص على اللؤلؤ والنفط، ودور التجار ورجال الدين في كلتيهما، وأثر ذلك في الحراك الدستوري.


ميلاد الفكر الدستوري

يقف الفصل الأوّل، "القانون الدستوري"، عند أحد فروع القانون العام، وهو القانون الدستوري، ويعرّف فيه "الدستور" بأنّه مجموعة من المبادئ أو القواعد التي تقيّد سلطة الحكام والسياسيين والحكومات، وتهدف إلى تحديد صلاحية المؤسسات والقيادات السياسية. ويشدّد المؤلف على أنّ البحث في الدساتير يُعد من الحقول التي تستند إلى العقائد والأفكار إلى حدٍ بعيد، خلافًا للبحث في سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويعتمد ذلك على مضمون القانون الدستوري من بلدٍ إلى آخر. ويبحث في ميلاد الفكر الدستوري، فيسرد كيف قيّدت الدساتير السلطات الملكية، ويشرح ظهور الدساتير المكتوبة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر الميلادي، والذي جاء بعد بزوغ الرغبة في تحديد أجهزة الدولة ووظائفها. ويفرّق بين الدساتير الديمقراطية والدساتير غير الديمقراطية من حيث صلاحيات الرئيس أو الملك أو الأمير، وبين الملكية البرلمانية والملكية الدستورية من حيث سلطات الملك وسلطات الحكومة.


الدستورانية القطرية من منظور مقارن

أمّا الفصل الثاني، "الحراك الدستوري في قطر"، فيخصصه المؤلف للإجابة عن الأسئلة الآتية: هل شهدت قطر حراكًا دستوريًّا؟ وهل تزامن حراكها مع الحراك الدستوري في البحرين والكويت؟ ولماذا بدأ فيهما الحراك الدستوري في عشرينيات القرن العشرين؟ وهكذا، يقارن تجربةَ قطر بتجربتَي الكويت والبحرين، وقد اختار هذين البلدين؛ نظرًا إلى التفاعل التاريخي بينهما وبين قطر منذ الأيام الأولى لتشكّلها، والتقارب الظاهري في النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وفي هذا السياق، يحدد المؤلف بدء الحراك الدستوري في الخليج العربي في عشرينيات القرن العشرين في الكويت والبحرين، بينما لم تشهد قطر حراكاً مماثلاً. ويوظّف منهجية فيفر لتناول التجربة الدستورية القطرية، لتجاوز ندرة المصادر المكتوبة وذلك بتناول الأوضاع في الكويت والبحرين للبناء عليها. ويفيد من قاعدة أصول الفقه التي تقيس الغائب على الشاهد لقياس التجربتين مقارنةً بقطر. ويؤكد غياب الحراك الدستوري القطري، حيث بدأت التجربة البحرينية تقريبًا بالتزامن مع الكويت في عشرينيات القرن العشرين، إلّا أنّ ثمارها أتت متأخرة؛ إذ لم يصدر دستورها إلّا عام 2002، أي سبقت قطر بعامين فقط. أمّا الكويت، فقد صدر دستورها عام 1962.

يضمّ الكتاب ثلاثة فصول، هي: "القانون الدستوري" و"الحراك الدستوري في قطر" و"تطور الفكر الدستوري في قطر"

ويستعرض المؤلف نماذج من بعض التجارب الدستورية الخليجية، لا كلّها؛ بسبب تنوّع أنظمة الحكم في الدول الخليجية الأخرى. وإنّ اختلاف الظروف التي عاشتها المشيخات المختلفة والسياقات التاريخية للسيرورة الدستورية أثّرت في التجربة والوعي السياسيَين، منتجةً مسارات ودساتير وأنظمة سياسية راهنة. ويبحث المؤلف في ذلك دور الجغرافيا في الاتصال وانتقال الأفكار، ودور البنى الاجتماعية والثقافية، والتجار ورجال الدين، والتعليم والأنشطة الثقافية. ففي حين ذهبت الأدبيات إلى أن تأخر إصدار الدستور في قطر يعود إلى التعليم النظامي الذي بدأ متأخرًا هو الآخر، يجادل المؤلف بأنّ أسبابًا أخرى شكّلت عوامل إضافية، مثل دور رجال الدين والتجار، وتأثير الوجود البريطاني في المنطقة، وثورة 1952 في مصر، وانتشار الفكر الناصري والقومي والعروبي. وعزا المؤلّف جوانب التطوّر في قطر ككل، لا سيما دستوريًّا، إلى الإيكولوجيا والوضع الجغرافي الخاص بها، حيث أثّر في مسارها التاريخي، وجعلها مختلفةً عن سائر البلدان المجاورة على غرار بقية المجالات الجغرافية المشابهة، وكان له دور في انغلاق المجتمع وانفتاحه على مؤسسات الدولة الحديثة، وكذلك في سياسة الحكّام تجاه القوى الخارجية، وفي علاقة الحكّام بالمحكومين. ومن العوامل الأخرى التي ذكرها تصدير البترول في عهد حاكم قطر الشيخ علي بن عبد الله (1949-1961)، الذي كان محوريًّا في التحول الذي حدث في البنية الاجتماعية، التي عرفت ثباتًا قبل ذلك، وأدى إلى تأثر التشكّل الاجتماعي بفعل الطفرة الاقتصادية.


ثلاثة دساتير

في الفصل الثالث، "تطور الفكر الدستوري في قطر"، تناول المؤلف التحولات الدستورية التي عرفتها قطر، بدايةً من إصدار "النظام الأساسي المؤقت"، مرورًا بـ"النظام الأساسي المؤقت المعدّل"، ثم ما أفضت إليه هذه التحولات من إصدار الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير قطر (1995-2013)، قرارًا أميريًّا في عام 1999 ينص على إنشاء لجنة لإعداد الدستور، تمخّض عن إعدادها مشروعٌ للدستور القطري انتهت منه في يوليو/تموز 2002، وقد عُرض على الاستفتاء الشعبي في إبريل/نيسان 2003، وحصل على الموافقة العظمى، ثم جرى إصدار الدستور الدائم في يونيو/حزيران 2004. وقد دخل الدستور حيّز التنفيذ بعد نشره في "الجريدة الرسمية" في 8 يونيو/حزيران 2005.

ويتطرق المؤلف إلى الملامح العامة للنظام السياسي في دولة قطر، ثم ينتقل إلى تطور التجربة الدستورية فيها عبر تحليل ما ورد في الوثائق الدستورية الثلاث، والمقارنة بين محتوياتها، من دون الانغماس في التفاصيل المتعلّقة بموادها وتفسيراتها. وهو يرى أنّ الدستور الدائم لعام 2004 أقرّ مبادئ سيادة القانون، والفصل بين السلطات، والانتخاب، والشعب بوصفه مصدرَ السلطات، والأسس الرئيسة للدولة الحديثة في قطر، وانتخاب أوّل سلطة تشريعية (مجلس الشورى) في أكتوبر/تشرين الأول 2021.

ويخلص إلى أنّ قطر لم تتأخر فعليًّا عن التجربتين الكويتية والبحرينية، بل جاءت تجربتها متدرجةً وموائمة لمستوى الوعي الجمعي بين السلطة والمجتمع، حتّى إنّها كانت متقدمة في التطبيق العلمي للنصوص الدستورية؛ فكان لها السبق مثلًا في منح المرأة حق الانتخاب والترشح عام 1998. ويستنتج المؤلف أهمية فهم العدة العقلية لكل جيل في قطر، لفهم كيفية حدوث التطورات السياسية والدستورية كما حدثت بالفعل.

ويختم المؤلف بتوصيات عن واقع التجربة الدستورية القطرية لتجويدها، والتي يراها تُرتهن برفع مستوى الوعي لدى كل شرائح المجتمع بالممارسات الديمقراطية، ودور السلطات المختلفة، والاقتناع بأنّ التجربة القطرية لها خصوصيتها. ويرى كذلك وجوب أن تحرص السلطتان التنفيذية والتشريعية على التواصل والتفاعل المستمرَين والإيجابيَين، وأن يعي كل عضو في مجلس الشورى بتساوي جميع الأعضاء، وأن يتبنى هذا المجلس مبدأ الشفافية، وينفتح على قضايا المجتمع. أوصى أخيرًا بالعمل على تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، وتعزيز مبدأ المواطنة، ونشر الوعي بالحقوق والواجبات.

المساهمون