في مذكراته "كذا أنا يا دنيا"، يقول خليل السكاكيني الذي يمرّ سبعون عاماً على رحيله، إنه "إذا لم نتحد في مقاومة الصهيونية ذهبت فلسطين من أيدينا وعرّضنا غيرنا للخطر، وإذا خسرت أمّة بلادها فقد خسرت كلّ شيء. إذا أردنا أن يكون لنا مستقبل مجيد فيجب أن نحتفظ ببلادنا، بكل قطعة منها، وما دامت لنا بلاد فمستقبلنا مضمون".
تنبّه المفكر والمربي المقدسي (1878 - 1953) مع العديد من أبناء جيله من النخب الثقافية والسياسية إلى خطر المشروع الصهيوني وضرورة مقاومته، في لحظة أجمعت مواقف هذه النخب ضدّ التجزئة والتفكيك الذي فرضته "اتفاقية سايكس بيكو"، إذ كانت معارضتهم لاستبداد الدولة العثمانية في أواخر حكمها، تستند إلى حلم تأسيس وطن مستقل للعرب.
ثورية السكاكيني انطلقت من بواعث وقناعات جذرية بضرورة التغيير وبناء مجتمع يؤمن بقيم الحرية والحداثة، ولا يمكن الوصول إليه إلا من خلال التعليم وامتلاك الوعي بوحدة الأمة واستقلاليتها، وعبّر عن ذلك في عمله السياسي الذي لم يفصله يوماً عن المعرفة والثقافة، ما يفسّر اهتمامه الخاص بإعادة إحياء التراث وتوظيفه في تأسيس الدولة الوطنية الحديثة.
آمن بأولوية التحرّر من نفوذ طبقات اجتماعية مارست احتكارها في فلسطين بموازاة التحرّر من المحتلّ الأجنبي
لم ينطلق تمايزه عن الكثير من المشتغلين بالسياسة آنذاك من أفكاره فقط، بل غلبت على شخصيته نزعة مثالية تسعى إلى نكران الذات من أجل مثل عليا، وأشار في أكثر من موضع في مذكراته إلى أولوية التحرّر من نفوذ طبقات اجتماعية مارست احتكارها السياسي والاقتصادي في فلسطين بموازاة التحرّر من المحتلّ الأجنبي، وكان صارماً متشدداً في تبنيه مواقفه الوطنية والفكرية.
في تقديم الجزء الثالث من "يوميات خليل السكاكيني"، يرى الباحث والمؤرخ الفلسطيني عادل مناع أن التعليم كان أداته الأساسية في تكريس رؤية استثنائية، حيث رأى أنه بمقدوره أن يلعب دوراً توجيهياً أصيلاً في خدمة وطنه عن طريق تربية الشباب، وهو يعبّر عن ذلك بقوله: "منذ توليت إدارة المدرسة لم أكف عن بثّ روحي في الطلبة. أطلقت الحرية، كبرت النفوس، أنهضت الهمم، وسعت الهمم، وسّعت الآمال، قويت الإدراك، عوّدت التلاميذ أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم".
انتقاداته المتكرّرة لسياسات الاستعمار البريطاني تواصلت، وكذلك حماسته التي تشرّبها طلبته تجاه هوية قومية عربية مستقلة، لكن تعيين الصهيوني هربرت صموئيل مندوباً سامياً على فلسطين، دفع السكاكيني إلى الاستقالة من عمله، وانتقل إلى القاهرة لعامين عمل خلالهما مديراً للمدرسة العبيدية، قبل أن يعود إلى القدس في العام 1922، مواصلاً نشاطه معلماً وناشطاً في الشأن العام بالإضافة إلى مواظبته على نشر مقالاته في صحف عربية عدّة.
يلفت منّاع إلى أن مقالات السكاكيني في "جريدة السياسة" القاهرية أثارت ردود فعل متعدّدة، ولقد ردّ على التعليقات التي ظهرت في الصحف، موضحاً في واحدة من مقالاته أنه "ليس لي غرض في ما أكتبه عن فلسطين في جريدة السياسة الغراء إلا إبلاغ ظلامات فلسطين واحدة واحدة إلى الرأي العربي عامة والرأي المصري خاصة"، وكان ذلك تعبيراً عن ألمه الشديد بتجاهل الصحافة العربية للقضية الفلسطينية وعدم إيلائها حقّها في لحظة تاريخية عصيبة.
كما يتطرّق إلى كتابات السكاكيني المتعددة في دعمه للثورات العربية في مواجهة الاستعمار، وفيها كان يؤكد على دور الشعراء والأدباء والموسيقيين في ضرورة الاشتباك مع قضايا أمتهم وأن يكونوا ضميرها الحيّ في تحرّكهم نحو الاستقلال.
الفجيعة التي عاشها السكاكيني في مآلات الأحداث التي قادت إلى النكبة واضطراره للهجرة عن القدس بعدما استولى الاحتلال الإسرائيلي على بيته ومكتبته والذهاب إلى القاهرة، تلازمت مع تراجيديا شخصية تمثّلت في رحيل زوجته؛ حبيبته ورفيقة دربه، عام 1939، وهناك في مصر تركّز عمله في "مجمع اللغة العربية، حتى رحل ابنه سري عام 1953، فساءت صحته وأحواله وغادر الدنيا بعدها بثلاثة أشهر.