"ذات حافية" لأنس الغوري: سردٌ يُقابل الواقع ويزدريه

30 نوفمبر 2022
أطفال سوريون في مخيّم للمهجّرين غمرته الأمطار قرب إدلب، 2018 (Getty)
+ الخط -

كتابةُ أنس الغوري ترفض العالَم كما عرفه الكاتب السوري الذي اقتيد خارج بلده المنكوب. وهو يبني نصوص كتابه "ذات حافية"، الصادر حديثاً عن "دار فضاءات" بِرقّة تشكو من الصدّ، الرقّة التي يصدُّها الآخرون، أو تردع ذاتها في فضاء لاإنساني تسمهُ المصالح. إنّه كتابٌ منتمٍ إلى ذات الكاتب، وبقدر ما يعرّيها، يَعود إليها ويعُدّها ملاذاً أيضاً.

يكتب الغوري (1985)، تجربته الشخصية في نصوص سردية وشذرات وخواطر نثرية. تتنوّع موضوعات نصوص الكِتاب، لكن يجمعها شاغل واحد؛ هو أنّها نصوص تُقابل الواقع وتزدريه. بهذه الصورة، فإنّ كتابته تفكيكٌ للألم وإعادة تصدير له في نصوص تُكثّف الشعور وتقتصد في التعبير. تأتي لغته من صلب التجربة، منسابةً، وكأنّها جزءٌ من الفجيعة، وكأنّها تعبيرٌ حُرٌّ يمثّل تجربة العيش، مكتوبةً بلا تَكلُّف.

عندما يصف جسده يصفه بالزريبة، وعقله بالقبو، يدُه مبتورة، وكلماته بلا لسان. كتابته تُغلّف رفضه للعالم بكلماتٍ صادقة مباشرة، يرميها أيضاً كمن يضرب حجراً جاهزاً في يده، من غير حركة مبالَغ بها. كتابة الغوري حجرٌ وكأنّه خُلِق في اليد، يرميه بلا استعداد، ويُلقي به في حفرة العيش، مستلهماً من الوجع لغةً تتساءل في الجدوى، وفي أمداء الرُّهاب الاجتماعي لإنسان فَرَّ من الحرب أو اقتيد خارجها، وثمّ مضى في أعقابها.

كشفٌ صاعقٌ لإنسان صنعه السجن وأنضجه اللجوء

يرى الغوري الكتابة خيانةً، فهي تخرجُ من إنسان يعتبر نفسه معطوباً، لأنّه عاجزٌ أمام واقع رآه، وربما عاشه، في المخيّمات، وأمام مَوَاتِ أهله، وإحالتهم إلى أرقام وسط عَسف الآلة، لا آلة الحرب فحسب، بل عَسف الإنسان الآلة. إنّه بهذا - ولو أنكر الأمر - يُنادي على تعاطف مَرجوّ.

مقولة الغوري الرافضة للعالم، تدور في إطار الفجيعة من غير أن تجترح أسلوباً خارجها، ما جعلها كتابةً تتحرّك في فضاء النكبة لِذاتٍ تتساءل حيال نفسها وهويتها؛ فهو يكتب من موقع المنكوب، الذي لا يريد بعدُ أن يدرك أبعاد واقعه. وهو مثال لكاتب يجعل من ذاته، بكلّ ما فيها، موضوعاً للكتابة، أي موضوعاً للآخر، موضوعاً لقراءة الآخر وتأويله. ويشبه ما ذهب إليه بتشبيه نفسهِ بالطائر النقّار الذي يضرب منقاره بالشجرة. بمحاكاة للاستعارة المذكورة؛ يدمي الغوري ذاته التي يكتبها، إذ يكتبها وكأنّما كي يدميها، ما جعل نصوصه كشفاً صاعقاً لإنسان صنعه السجن وأنضجته ظروف اللجوء.

ذات حافية - القسم الثقافي

المؤكَّد أنّ ثمة غضباً ورفضاً يحرّكان تعبير الغوري الذي يذهب إلى تصوير الكلمات، كلماته، بالمولوتوف؛ يرميه في وجه الحضارة. وهو إذ يبحث في قبو عقلهِ عن أفكار تغيّر واقعه، لا يجد سوى المسامير. إنّه كائن معطوب، كما أخبرنا. بهذه الصورة، فالذات الحافية التي أعدّها صاحبها بفعل ما تعرّض له هو وبلده، كي تكون حشوة مولوتوف، بدا أنّها انفجرت داخله. ومع الانفجار الداخلي الذي يفوق الاحتراق المُعتاد للذات المبدعة، صارت الذات الحافية شظايا خرجتْ شذراتٍ لغوية تقصُّ الجانب المؤلم للعيش، الجانب الذي يركن فيه الكاتب في الزاوية المعتمة ويتأمّل حياة الآخرين.

في الكتاب نصوص تصرّح بسوريّة كاتبها، ولا مناص للذات الحافية التي راحت تعرّي نفسها وتفضحها أملاً بفضح الآخرين وتعريتهم، من الاعتراف بأنّها ذات سوريّة، فانتماؤها من حقائقها. الغوري بكتابته الشخصية يمثّل طيفاً واسعاً من الضحايا، وهو عجينة شكّلتها يدُ الموت والقمع واللجوء؛ لا يبعث فيهِ الحياة سِوى الحبّ المرجوّ، والحريّة التي ينتظرها أبناؤها، لأنّ الحرية بانتظارهم، ينقذون أنفسهم من أن يصيروا عدماً. وكأنّ كلّ ما يكتبه الغوري، رشقٌ لجدارِ العالم الأصم، بدمه الأسود، كي لا ينسى العالم ألم أبنائه، كي لا يغفو وأبناؤه يتعذّبون، وكأنّما بالصراخ والشتائم يجدون العزاء.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون