تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثاني من شباط/ فبراير، ذكرى ميلاد الكاتب الإيرلندي جيمس جويس (1882 - 1941).
في تاريخ الرواية والسرد الحديثين، قليلةٌ هي الأسماء التي تتحوّل أعمالُها إلى مشاعٍ لا يخصّ القرّاء وأكايديميّي الأدب ونقّاده، وحدهم، بل يعني باحثين ومشتغلين في كثير من الحقول الأخرى. يمكننا أن نذكر فرانز كافكا، وكذلك النمساوي روبرت موزيل، اللذين يشكلان، منذ النصف الأول من القرن الماضي، موضوعاً ملهِماً لعدد لا بأس به من الفلاسفة والباحثين في العلوم الاجتماعية، في فرنسا على الأقل.
ويكفي هنا أن نعطي مثالاً كتاب جيل دولوز وفيليكس غواتاري، الذي بات أشهر من أن يُعرَّف به، "كافكا: من أجل أدب أقلّي" (1975 للطبعة الفرنسية، 2018 للترجمة العربية، عن دار "سطور"، بتوقيع حسين عجّة)، وكتابَي المفكّرين جان بيير كوميتّي، "موزيل فيلسوفاً: اليوتوبيا والمحاولاتية" (2001)، وجاك بوفرس، "روبرت موزيل: الرجل المحتمل" (1993).
على أنّ أحداً من الكتّاب المعاصرين لم يثر اهتمام الباحثين غير الأدبيّين كما فعل الإيرلندي جيمس جويس، الذي تمرّ اليوم ذكرى ولادته (1882 - 1941). فالكتب والمقالات البحثية والندوات والمحاضرات التي تتناول أعماله تكاد لا تُحصى، في حقول بحثية وإبداعية كثيرة، تبدأ بالفلسفة وتنتهي بالدراسات النِسوية، وتمرّ بالتاريخ والشرائط المصوّرة. أما في التحليل النفسي، وخصوصاً في فرنسا، فإن صاحب "يوليسيس" بات أشبه بأرض خصبة، ونبع لا ينضب، لدى المحلّلين والباحثين، لا سيّما اللاكانيين منهم.
لم يُثر أحدٌ مِن الكتّاب المعاصرين اهتمام الباحثين غير الأدبيّين كما فعل جويس
ذلك أن جاك لاكان هو الذي فتح باب هذا الاهتمام، فرنسياً، عام 1975، عبر سيميناره "السانتوم"، الذي تُشكّل حياةُ وأعمالُ جويس محورَه وموضوع درسه. وقد بات معروفاً أن جويس، كاتباً وشخصاً، هو الذي ألهم لاكان هذا المفهوم - السانتوم - الذي يعدّ من أبرز ما أضافه المحلّل الفرنسي إلى تاريخ التحليل النفسي.
تعني هذه الكلمة العارضَ المرضيّ (كالحمّى، مثلاً، باعتبارها عارضاً للإصابة الجرثومية)، لكنّ لاكان يكتبها كما كانت اللغة الفرنسية القديمة تكتبها (أي Sinthome بدلاً من Symptôme)، وهو ما يحافظ على معناها التحليلي والطبي، ويقرّبها كتابياً، وليس صوتياً فحسب، من تعبير "رجل قديس"، الذي يُلفظ أيضاً "سانتوم"، رغم أنّه يُكتب في كلمتين منفصلتين.
هذا الرجل القدّيس، الذي هو في الوقت نفسِه عارضٌ من عوارض الاعتلال، هو جويس نفسه. ففي استعادة، محوّرة لاكانياً بالتأكيد، لمفهوم التصعيد من خلال الإبداع، الذي وضعه فرويد، يرى المحلّل الفرنسي أن الكتابة تمثّل لدى جويس حلّاً لاعتلالٍ في بُنيته النفسية. وبينما كان فرويد يرى في التصعيد تنفيساً عن معاناة عُصابية، يذهب لاكان حدّ النظر إلى "السانتوم" كحلّ للذُهان المحتمل الذي يعتري جويس، والذي يلتقطه لاكان في سيرته العائلية (جنون والد جويس بحسب لاكان، ورفض جويس لأبويّة والده عبر تغيير اسم بطله، الذي هو جويس نفسه، في روايته "يوليسيس"، وكذلك انفصام ابنته لوسيا وتعامله معه، ووصفه الأخيرة بأنها شخصية تخاطرية) وفي كتاباته ورسائله، خصوصاً إلى زوجته نورا بارناكل.
وفي تحليل لاكان المعقّد، فإن الكتابة الإبداعية المركّبة والمجدّدة التي وضعها جويس، في "يوليسيس" وفي "أهالي دبلن" و"يقظة فينيغان"، تأتي لتسدّ الفراغ أو اللاترابط بين عوالمه النفسية، والتي يقسّمها المحلّل الفرنسي إلى ثلاثة حقول، هي المتخيّل والرمزيّ والواقعيّ. بعبارة أخرى، تمثّل الكتابة عارضاً يجد من خلاله جويس طريقةً لتسوية ذُهانه، الناتج عن انفصال وعدم ترابط الحقول الثلاثة المذكورة للتوّ. والسانتوم، أو العارض/ الرجل القديس، هو الاسم الذي يعطيه لاكان لهذه التسوية عبر الكتابة، وهو كذلك الاسم الذي سيعطيه، في سيميناره، لجويس نفسه.
اهتمام المحللين النفسيين الفرنسيين بجيمس جويس وكتاباته سيستمر بعد لاكان، خصوصاً لدى تلميذته كوليت سولير، صاحبة "لاكان قارئاً جويس" (2015)، و"المغامرة الأدبية أو الذُهان الملهَم: روسّو، جويس، بيسوا" (2001)، ولدى جاك تريلينغ، صاحب "جيمس جويس أو الكتابة بوصفها قتلاً للأمّ" (2001).