تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم الرابع من كانون الثاني/ يناير ذكرى عالم الآثار والباحث السوري حسني حداد (1923 – 1996).
في مطلع الخمسينيات، نشر حسني حدّاد بحثاً مطولاً بعنوان "في الموسيقى السورية"، على عدّة حلقات في جريدة "الجيل الجديد" الدمشقية، عاد فيه إلى نشوء الموسيقى منذ الألف الثالث قبل الميلاد في زمن السومريين، مروراً بالعصور البابلية والآشورية، ووصولاً إلى القرن العشرين.
درس عالم الآثار والباحث السوري (1923 - 1996) في بحثه الذي توسّع به وأصدره في كتاب لاحقاً، ظهور الآلات الموسيقية في التاريخ، ومنها آلات الإيقاع كالطبل والصنوج والدفوف وما تفرّع عنها من آلات أصغر حجماً وآلات النفخ كالناي المُفرَد والمزدوج والمزمار، والآلات الوترية التي اكتشف نماذج منها كاملة وغير محطّمة في مقابر "أور" بالعراق.
دراسة تاريخ الموسيقى السورية كانت وثيقة الصلة بمجال تخصّصه الأكاديمي حيث درس التاريخ القديم في منطقة الهلال الخصيب، وتخصّص في دراسة وثائق رأس شمرا وتعلّم اللغات الأوغاريتية والأكادية في "جامعة شيكاغو" بالولايات المتحدة، وواصل دراسته حتى نال درجة الدكتوراه بعنوان "إله العواصف السوري القديم بعل" عام 1960، كما لعب انتماؤه السياسي إلى الحزب القومي الاجتماعي السوري دوراً في صياغة توجّهاته آنذاك.
دراسة تاريخ الموسيقى السورية كانت وثيقة الصلة بمجال تخصّصه الأكاديمي
يرى حدّاد أن الموسيقى في الحضارات السورية احتلّت مركزاً رفيعاً، وكانت تستخدم في المعابد والحياة العامة والاحتفالات الشعبية وتُرافق الإنشاد الديني. وكذلك كانت تُرافق إنشاد الملاحم الأسطورية والملاحم الشعرية مثل ملاحم رأس شمرا - أوغاريت، كما تبوأ الموسيقيون مركزاً رفيعاً في المجتمع.
واعتماداً على مخططات القصور والمعابد ونقوش عديدة، يلفت الكتاب إلى أن السومريين كانوا أول من جمع الآلات الموسيقية؛ آلات النفخ والآلات الوترية وآلات الايقاع معاً، لتؤلّف مجموعة موسيقية كاملة أو ما يعرف حالياً بـ"الأوركسترا"، كما كانوا أول من استخدم الموسيقى في المسيرات العسكرية.
بعد حصوله على الدكتوراه، عمل حدّاد مدرّساً في العديد من الجامعات الأميركية، ونشر بعض المقالات التاريخية والسياسية وبعض الأبحاث التي تدرّس موقف المؤرّخين الغربيين من تاريخ المنطقة العربية، كما انشغل بدراسة التأثير الديني على مجرى السياسة الخارجية الأميركية والصهيونية المسيحية.
وفي كتاب مشترك مع الباحث اللبناني سليم مجاعص حمل عنوان "أناشيد البعل - قراءة جديدة للأساطير الأوغاريتية"، تمّت إعادة ترجمة نصوص أوغاريت للعربية مرّة جديدة مع تعدّد الترجمات المُجتزأة، ومنها الأناشيد الدينية التي تمّ تصنيفها إلى ثلاثة أقسام بحسب الأحداث التي تتمحور حولها، وهي: صراع بعل ويم، وبناء قصر لبعل، وصراع بعل وموت بعل وقيامته.
ومن المرجّح، بحسب هذا الكتاب، أن هذه الأناشيد لم تُكتَب دفعةً واحدة وإنما على مراحل تعكس تطوّر العقائد الدينية عند الحضارات السورية، وكانت لها وظيفة احتفالية طقسية ولعلّها كتبت لهذا الشأن، وكانت تُتلى في احتفالية السنة الجديدة التي كانت في التقويم الأوغاريتي تبدأ في الخريف، وأنها كانت تعبّر عن تنظيم الطبيعة لصالح حياة البشر على مراحل ثلاثة: تنظيم القوى المائية من أجل السيطرة على فيضانها وقوّتها التدميرية، وتثبيت النظام الاجتماعي الذي يشكّل مركزه قصر بعل، والصراع مع الموت الذي ظلّ يعدُّ القوة الكبرى التي يُمكن لها القضاء على جميع الآلهة، وعلى الجميع القبول بالموت لتكون قيامة بعل من موته هي الدليل على استمرارية الحياة.
ألّف حداد كتباً عديدة منها "أساطير الخصب القديمة والمعتقدات الشعبية في سورية"، و"بعل حدد - الذهنية والمعتقد والطقوس" (بالاشتراك مع سليم مجاعص)، و"كتاب العالم العربي"، و"سياسة الكنيسة الأميركية والشرق الأوسط"، وكلا الكتابين بالاشتراك مع بشير نجم.