تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثالث من أيار/ مايو، ذكرى ميلاد عالم اللغات الشرقية والباحث العراقي حسين علي محفوظ (1926 – 2009).
في عام 1964، أصدر حسين علي محفوظ "معجم الموسيقى العربية"، والذي يشير في مقدمته إلى أن أساس نشر الكتاب هما في الأساس فصلان صغيران، أحدهما ورد في كتابه "معجم الآلات والأدوات" والآخر في كتابه "معجم الصنّاع والبياعين والحرفيين"، قبل أن يزيد عليهما كل ما أتيح له التقاطه من الاصطلاحات والمواضعات التي استعملها العرب في الموسيقى، والغناء، والسماع، والإيقاع، والطرب...
ويوضّح عالم اللغات الشرقية والباحث العراقي (1926 – 2009)، الذي تحلّ اليوم الأربعاء ذكرى ميلاده، بأنه عاد إلى نحو مئة وخمسين مرجعاً راجعها في شهرين متتابعين، ليخلص إلى تأليف ما ظنّه ــ آنذاك ــ أول معجم عربي جمع ما تيسر له اتتخابه من أوابد ألفاظ الموسيقى العربية.
المعجم الذي صدر بماسبة انعقاد "المؤتمر الدولي للموسيقى العربية" في بغداد في ذاك العام، انقسم إلى قسمين أولهما يجمع الاصطلاحات القديمة في التراث العربي في وصف الموسيقيين والمطربين والآلات الموسيقية والموسيقى والغناء والأصوات، بالإضافة إلى تعريف بالموسيقي البغدادي صفي الدين الأرموي (1216 – 1294 م) ومؤلّفاته وتصنيفاته في علوم الموسيقى.
ترك الراحل العديد من المؤلّفات في تأصيل علوم التراث وضوابط علم المخطوطات
أما القسم الثاني، فاشتمل على اصطلاحات "مجمع اللغة العربية"، أي ما تمّ تحديثه وتطويره من مصطلحات حتى ستينيات القرن الماضي، وصنّفها إلى مصطلحات تخصّ آلات العود والقانون والكمان والمزامير، مع مسردين يتضمنان الاصطلاحات الفرنجية (اللاتينية) وما يقابلها بالعربية، والاصطلاحات العربية وما يقابلها في اللاتينية. ورغم قصر حجم هذين المسردين إلا أنهما يحملان أهمية خاصة بالنظر إلى الجهد المبذول لتوخّي الدقة في النقل والترجمة واختيار المفردات المناسبة.
هذا المعجم يُضاف إلى جملة معاجم اشتغل عليها محفوظ، ومنها "معجم الأضداد"، و"مختصر معجم الأضداد"، و"معجم العلامات والرموز"، و"معجم الألوان"، و"مصطلحات النقود"، و"معجم المترادفات"، و"قاموس التراث". ويندرج هذا ضمن اهتمامه بالاقتراض بين اللغات، والشرقية منها على وجه الخصوص، والتي هي مبحث اختصاصه الأكاديمي.
هكذا، درس الراحل أثر اللغة العربية في اللغات الشرقية، وبعض اللغات الأفريقية والأوروبية، واستقصى حضور العربية، لغة وأدباً، في لغات وثقافة الشعوب الشرقية، وأشار في مؤلفاته إلى أن نسبة الألفاظ العربية في اللغة الأوردية هي ما يقارب 95%، وفي اللغة الطاجيكية نحو 39%، وفي اللغة التركية حوالي 70%، وفي اللغة الفارسية تصل إلى 67%.
وكرّس محفوظ جانباً كبيراً من حياته العلمية في تحقيق وفهرسة وإحياء التراث ضمن عشرات المؤلفات التي تناول فيها موضوعات لا حصر لها، بدءاً من العمارة والفلك والتقويم والتعليم والزراعة والطب والكيمياء والأخلاق والحرب وغيرها، وترك آثاراً في تأصيل علوم التراث وضوابط علم المخطوطات، كما كان له آراء في التقويم والحسابات الفلكية للأيام والشهور والسنين واختلافها عبر العصور وبين الثقافات.
وُلد الراحل في حيّ الكاظمية ببغداد، وتخرّد من "دار المعلمين العالية" فيها، وكان تخصصه اللغة العربية. ثم نال شهادة البكالوريوس عام 1948، قبل أن ينتقل إلى طهران ويدرس في جامعتها الآداب الشرقية وينال درجة الدكتوراه عام 1955، حيث عاد إلى بلاده وعمل أستاذاً في "دار المعلمين"، ومفتشاً للغة العربية في وزارة المعارف (التربية والتعليم حالياً).
درّس محفوظ بعد ذلك في الكلية الشرقية بـ"جامعة لينينغراد"، ثم رجع إلى العراق وأسس قسم الدراسات الشرقية في "جامعة بغداد" عام 1961، كما عمل مدرّساً في قسم اللغة الفارسية بكلية اللغات في الجامعة خلال الثمانينيات والتسعينيات.
وترك عشرات الدراسات والكتب، من بينها: "المتنبّي وسعدي" (1957)، و"حمزة بن الحسن الأصفهاني: سيرته وآثاره" (1962)، و"أثر اللغة العربية في اللغة التاجيكية" (1964)، و"مختار ديوان ابن الخيمي" (1970)، و"أثر اللغة العربية في اللغة الفارسية" (1974)، و"الفارابي في المراجع العربية" (1975)، و"نظرة في تاريخ البحث والتأليف والاستشراق" (1978)، و"المصطلحات المعمارية في التراث العربي" (1980)، و"قواعد التحقيق وأصوله وضوابطه" (1983)، و"رسالة إلى الإنسان" (2000)، وغيرها.