تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الرابع عشر من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد الشاعر السورية سنية صالح (1935 – 1985).
في مقاومتها للسائد والمألوف من موروثات اجتماعية وثقافية، اجترحت سنية صالح، التي تحلّ اليوم الأربعاء ذكرى ميلادها، صوتَها الخاص، مُنْبَتَّةً عن التيارات والأسماء التي تسيّدت المشهد الشعري العربي الحديث وقصيدة النثر خلال ستينيات القرن الماضي، وفي طليعتها أدونيس ويوسف الخال، وكذلك زوجها محمد الماغوط، الذي سيعترف لاحقاً بأنّ اقتران صالح باسمه ربّما آذاها، إذ طغى على حضورها وتلقّي شِعرها.
لم تكن مغايَرةُ واختلاف الشاعر السورية (1935 – 1985) في مبنى القصيدة ومعناها فحسب، إنما في تفضيلها الشعرَ عزلةً عبّرت عن قلقها الدائم وتوجّسها من الصّخب.
عزلةٌ تبتدئ بنأْيها عن الأوساط الثقافية والنقدية، التي بدورها تجاهلت تجربتها، ولا تنتهي برفضها لتلك البُنى والمنظومات الاجتماعية، من خلال نزوعها إلى مساحاتٍ شعرية داخلية، ونفورها من المقولات الكبرى التي رأت فيها عطَباً.
نظرت إلى الجسد بوصفه جسر عبورها إلى الكتابة التي تعاملت معها كخلاص وجودي
في قصيدة "حرب الذاكرة"، كتبتْ: "نادِني أيُّها المجهول/ بكلّ أصواتك المدهشة/ امنحني سُفُنك المنقِذة/ فقلبي بحرُها الصغير/ الهائم بحُبِّك/ لو كان لي أَحبّاء/ لناديتُهُم بصوتِكَ/ لو كان لي وطنٌ/ لجعلتكَ عَلماً له/ لكنّني غريبة وعَزْلاء كالراهبة".
أعلنت صالح عن رؤيتها الخاصّة منذ مجموعتها الشعرية الأولى، "الزمان الضيق"، التي صدرت عام 1964، محتميةً بأحاسيسها وأحلامها وذاتها المتشظيّة ،كشاعرة وأنثى، وبنظرتها إلى الجسد بوصفه جسر عبورها إلى الكتابة، التي تعاملت معها كخلاص وجودي، والتي تعادل بالنسبة إليها ولادةً أخرى تقترن بالنزف والألم وتقود إلى حياة كائن جديد.
هكذا، شكّلتْ قصيدتها من تساؤلات ترتبط بذات مُنهكة ومتعبة، ومركّبة في تعدّدها وتناقضاتها، تتبادل في ما بينها الحوار والجدل التأمّلي والفلسفي حول الحياة والموت والمرض والحب، والكشف عن الخراب الذي يعتري المجتمع. وهي لا تكتفي بتوجيه أسئلتها، فحسب، إلى البطريركية الأبوية ضمن معادلة الهيمنة والسلطة بين الرجل والمرأة، بل تعبّر عن ثورة أكبر، تُطاول جميع المعتقدات والتصوّرات التي خلقتها البشرية في علاقاتها الإنسانية والعاطفية.
كتبت سنية صالح شعراً مضادّاً لتاريخٍ من الإقصاء والتهميش المعجونين بالرغبة في تشييء المرأة وتملّكها باسم الحب، ومضاداً لثقافة تسحق آدميّةَ النساء تحت ذرائع الأخلاق وتصرّ على هزيمتهنّ باسم الحب أيضاً، كما تقول في قصيدة "العاشق الوبال": ""حشدٌ من العشّاق/ يطاردونها/ حذارِ أيّها العشّاق وإلّا تجزأتُ/ أنا المرأة المتعدّدة/ خُلِقْتُ من أجل الطِّراد العظيم/ من نسل عاشقاتٍ منهزمات".
مسكونةً بالحزن، وقابضة على حلم يراوح بين الحِسّية الجسدية والصوفية الروحانية، قاومت سنية صالح الظلم والموت على طريقتها، حيث ظلّت تكتب حتى رحلت في مستشفى بإحدى ضواحي باريس بعد صراع مع مرض عضال، وتركت عدّة مجموعات شعرية منها "حبر الإعدام"، و"ذَكَرُ الورد"، إلى جانب مجموعة قصصية وحيدة بعنوان "الغبار".