تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الحادي الثلاثون من آذار/ مارس، ذكرى الفنان التشكيلي المصري سيف وانلي (1906 – 1979).
في عام 1926، وبرفقة شقيقه أدهم (1908 – 1959)، زار سيف وانلي، الذي تحلّ اليوم الأربعاء ذكرى ميلاده معرض "جماعة الخيال" التي أسّسها النحات محمود مختار، وتُنسب إليها بدايات الحداثة الفنية في مصر ضمن أطر كلاسيكية، ليقرّرا دراسة الرسم خفية عن عائلتهما الأرستقراطية المحافظة.
شكّل الفن للفنان التشكيلي المصري الراحل (1906 – 1979) عالماً سريّاً لسنوات عديدة، بعيداً عن عينيْ والده الذي رفص أن يرسله إلى المدارس المصرية في مرحلة شهدت نشاطاً وطنياً مكثفاً ضدّ الاستعمار البريطاني شارك فيه الطلاب بالدرجة الأولى، ليتلقى تعليمه للغة والموسيقى في البيت.
رغم كلّ هذه الظروف، التحق سيف وأدهم بمرسميْ الفنانين الإيطاليين أرتورو زانييري (1870- 1955) وأوتورينو بيكي (1878- 1949)، وحين أغلق الأخير مرسمه وعاد إلى بلاده عشية الحرب العالمية الثانية، افتتح الشقيقان، مع صديقيهما الرسام أحمد فهمي والمخرج محمد بيومي، مرسماً خاصاً بهم في الإسكندرية عام 1935.
برزت تجربة سيف خارج الاتجاه السائد في الحركة التشكيلية المصرية آنذاك التي غلبت عليها مواضيع الهوية وتسجيل الواقع المصري لدى معظم الفنانين، حيث تعلّق برسم الطبيعة وفضاءات الفن والمسرح والبالية في مدينتهما التي كانت إحدى أهم المدن المتوسطية بتنوّعها الاجتماعي وانفتاحها على روح العصر.
كما مثّل البحر الذي وُلد سيف بقربه العنصر الأبرز في لوحته، بل لا يمكن تأريخ الفن في مصر دون التطرّق إلى تجربته في تناول الساحل السنكدري الذي لا يبدو في لوحته "بحر الإسكندرية" بقدر ما يظهر متخيّلاً شبيهاً بغيره من البحار ضمن تأثره بالمدارس الانطباعية ثم التكعيبية والتجريدية في مرحلة لاحقة.
سافر الأخوان وانلي خلال الخمسينيات إلى عدّة بلدان أوروبية ونفّذا في تلك المرحلة أعمالهما الشهيرة من لوحات وتخطيطات كانت موضوعاتها الأساسية عروض الموسيقى والباليه والمسرح وحفلات الأوبرا وسباقات الخيل والألعاب الرياضية ومصارعة الثيران، في تركيز على الحركة والبعد الدرامي في أداء الفنانين والموسيقيين على الخشبة وفي الكواليس، وكذلك الرياضيين في غمرة تنافسهم في المسابقات والبطولات.
وفي عام 1959، كلّفتهما وزارة الثقافة، إلى جانب العديد من الفنانين من أبناء جيلهما، بتوثيق الإرث المعماري النوبي قبل أن تُغطي هذه المنطقة المياه بسبب بناء السد العالي في أسوان، ليوثقا التراث المعماري والمناظر الطبيعية في مدينة أسوان بالجنوب المصري.
كان سيف غزير الإنتاج، إذ رسم أكثر من ألف لوحة بالإضافة إلى العديد من الرسوم والتصاميم التخطيطية، مهتماً بشكل رئيس بتوزيع الظل والنور في أعماله، ومتميزاً بضربات الفرشاة الناعمة على السطح والتناغم اللوني الذي سينتقل من الألوان الزاهية في بداياته إلى ألوان أكثر قتامة في مرحلة متأخرة، خاصة بعد فقده شقيقه أدهم الذي رحل في الخمسين من عمره.
ونزع نحو التجريب في استخدام التقنيات ومنها الألوان الزيتية والمائية والغواش والفحم والباستيل والرصاص والحبر، كما لجأ إلى المدرسة الوحشية في التعبير عن ثيمات برزت بعد نضوجه الفنيّ والتي ظهرت في سلسلة كبيرة رسَم خلالها الحصان في هيئات مختلفة، مبرزاً قوة الخطوط وكثافة الألوان بما يوحيه هذا الحيوان من دلالات رمزية متنوّعة تستند إلى موروث شعبي وأسطوري.
تحضر مدينة متخيّلة يمتزج فيها الواقعي والأسطوري في أغلب لوحاته، يؤثثها بالباعة المتجولين والراقصين والمغنين والعمال والفلاحين والمتسولين، تتجاوز معهم قطط وكلاب وأحصنة وعصافير، كلّهم يحيون بشغف وحماس في الشوارع والمقاهي وعلى الأرصفة، وفي الحقول الشاسعة المفتوحة على الأفق.