تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الحادي والثلاثون من آذار/ مارس، ذكرى الباحث والمناضل الفلسطيني صبحي غوشة (1929 – 2019).
امتلك صبحي غوشة، الذي تحلّ اليوم الأربعاء ذكرى ميلاده، وعياً قومياً تشكّل مع النكبة التي دفعته مع العديد من أبناء جيله إلى نذْر حياتهم في سبيل استرداد الأرض السليبة وتحرّر المجتمعات العربية التي خضعت عقوداً تحت وطأة الاستعمار وكان استقلال أنظمتها شكلياً مع استمرار تبعيتها للخارج.
تخرّج المناضل والباحث الفلسطيني (1929 – 2019)، من كلية الطب في "الجامعة الأميركية" في بيروت، ليعود منها مطلع خمسينيات القرن الماضي إلى مدينته القدس، وينشئ فيها "جمعية المقاصد الخيرية" والمستشفى الذي حمل اسمها، ملتزماً في تقديم رسالته الإنسانية تجاه ناسه ومجتمعه بالتوازي مع بثّ أفكاره القومية ردّاً على الهزيمة.
بعد احتلال ما تبقّى من فلسطين عام 1967، ساهم غوشة في تأسيس "منظمة النضال الشعبي الفلسطيني"، التي عُرفت لاحقاً بـ"جبهة النضال الشعبي الفلسطيني"، وبدأ مع رفاقه تنظيم المقاومة المدنية، بما فيها مقاطعة البضائع الإسرائيلية، والتنسيق مع القوى المقاومة التي آمنت بالكفاح المسلح سبيلاً وحيداً للتحرير.
ركّز في خطابه على أهمية الحداثة كمنتج معرفي وثقافي لا ينفصل عن النضال الوطني
لم تمض سوى أشهر قليلة حتى اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي وحوكم أمام محاكمها العسكرية، ثم أفرج عنه وتمّ إبعاده بسبب حالته الصحية عام 1971، فسافر إلى الكويت، حيث عمل في وزارة الصحة حتى عام 1990، ومنها انتقل إلى عمّان حيث افتتح عيادته الخاصة.
ركّز غوشة في خطابه على أهمية الحداثة كمنتج معرفي وثقافي لا ينفصل عن النضال الوطني، ووضع خلاصة تأملاته وبحثه في كتابه "القدس.. الحياة الاجتماعية في القرن العشرين"، الذي صدر عام 2011، وهو كتاب موسوعي صدر في إطار "مشروع كتابة تأريخ القدس الشامل"، الذي تشرف عليه الشاعرة والباحثة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي.
اشتمل الكتاب على ثمانية عشر فصلاً امتزجت فيها سيرته الذاتية، مع التاريخ الاجتماعي للقدس من خلال علاقة أبنائها بالعمران والطقوس الشعبية ومراسم الخطبة والزواج والولادة وألعاب الأطفال ووسائل الترفيه والعزاء، ومكانة القدس كمركز من مراكز العلم في فلسطين، حيث ضمّت العديد من المدارس الدينية والمنتديات الأدبية والفكرية، والمكتبات، الحياة الدينية لأهلها. وفصّل الكتاب أيضاً المهن والصناعات الشعبية التي سادت في القرن الماضي.
وفصّل أيضاً العديد من الموضوعات، مثل العلاج الشعبي والتداوي بالأعشاب، والأزياء التراثية وارتباط كلّ منها بالمناسبات الاجتماعية، وثقافة الطعام، مع عرض لتطوّر أماكن الترفيه العامة، بدءا بتجمع الناس في المقاهي حول الحكواتي، أو حضور حفلات خاصة يقيمها مغنون أو عازفون موسيقيون مشهورون، ومن ثم المسارح ودور السينما وحفلات الاستقبال، وقدّم مسرداً لبعض الكلمات والمصطلحات الدارجة في اللهجة اليومية العامية للمقدسيين.
كما أصدر غوشة مجموعتين قصصتين، هما "شمسنا لن تغيب" (1986)، و"الشمس من النافذة يالعالية: وجوه في رحلة النضال والسجن" (1988)، واللتين تغلب على نصوصهما مناخات العمل الفدائي والعديد من الأحداث البارزة في التاريخ الفلسطيني المعاصر.
ترك غوشة عدّة مخطوطات، منها "بوابة الدموع. القدس تتهود فما العمل؟" (مشترك مع نواف الزرو)، و"أضيء شمعة" (مجموعة مقالات)، و"أيام حلوة مرة. الأوضاع الديموغرافية في القدس" (مجموعة مقالات).