تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم الثالث من كانون الثاني/ يناير، ذكرى ميلاد الفنان الجزائري عمر راسم (1884 – 1959).
في عمله "كتاب الجزائر: تاريخ الجزائر إلى يومنا هذا" (1931)، أشار المؤرّخ أحمد توفيق المدني إلى أن عمر راسم ــ الذي تحلّ اليوم الإثنين، الثالث من كانون الثاني/ يناير، ذكرى ميلاده ــ أصدر أوّل جريدة باللغة العربية في بلاده عام 1908، ونشَر على صفحاتها لكبار الشخصيات الثقافية والسياسية آنذاك.
وبيّن أنه بعد إيقاف سلطات الاستعمار الفرنسي للجريدة التي حملت اسم "الجزائر"، قرّر الفنان والصحافي الجزائري (1884 – 1959)، إنشاء جريدة ثانية باسم "ذو الفقار"، والتي احتوت مقالات ساخرة بلغة رمزية في محاولة للإفلات من رقابة المستعمر، واختار لنفسه اسماً مستعاراً هو ابن منصور الصنهاجي، وجعل لكلّ مقال في صحيفته رسماً أو رسمين يتولّى بنفسه رسمهما، وكتَب على غلاف الصحيفة بأنها "عمومية اشتراكية انتقادية".
تمكّن راسم من استفزاز الفرنسيين إلى أن ألقوا القبض عليه، ودخل السجن عام 1916 بتهمة "التواصل مع العدو"، وحكموا عليه بالمؤبّد والأشغال الشاقة، ثم أُطلق سراحه بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، سنة 1921، ليواصل نشاطه الصحافي والفنّي.
أسّس راسم أول جريدة ناطقة بالعربية في الجزائر، وجمع بين العمل السياسي والصحافي والفن
ولفت المدني إلى أن جريدة "ذو الفقار" كانت من أوائل الصحف العربية التي نبّهت إلى تهديد المشروع الصهيوني، حيث اتّسمت مقالاتها في هذا الصدد بالحدّة، مستنكرةً صمت القيادات العربية حيال ما يجري من دعم سياسي ومالي للهجرات اليهودية إلى أرض فلسطين، كما لم تُغفل الجريدة تبيان الموقف الأوروبي الذي صدّر أزمة اليهود لديه إلى العالم العربي.
وًلد راسم في الجزائر العاصمة وتعلّم في كتاتيبها، حيث حفظ القرآن وهو ابن سبع سنوات. درس في المدرسة الشَّرعية الفرنسية الثعالبية بالجزائر سنة واحدة إلى أن طرده أحد الأساتذة فيها، ثم اعتمد على نفسه فتعلّم اللغتين العربية والفرنسية.
عُرف مبكّراً بأفكاره الإصلاحية، وكان منحازاً إلى رؤية الإمام محمد عبده. اهتمّ بالسياسة مبكراً، حيث بدأ نشر مقالاته في عدد من الصحف التونسية مثل "النقد" و"مرشد الأمّة" و"المرشد"، قبل أن يؤسّس جريدته "الجزائر"، وبعد خروجه من السِّجن استمرّ بنشاطه الإصلاحي والثقافي، فانقطع للفنِ والرَسم، وبرز فيهما، حتى صار أستاذاً سنة 1931 في "مدرسة تعليم فنِ التَصوير والزَّخرفة العربية" الذي شاركه في إنشائها شقيقه محمد راسم (1896 – 1975)، وتخرَّجت على يديه نخبة مِن كبار الرَّسَّامين.
اشتهر عمر راسم بخطّه العربي وبراعته في رسم الزخرفة والحروفيات والمنمنمات والخزف، وترك نماذج فنية منها في عدد من المساجد والأضرحة في بلاده، وكان اهتمامه منصبّاً على إحياء التراث الجزائري الإسلامي في أعماله. ومن أجل هذا الغرض أقام معرضه الأوّل مع عدد من تلامذته عام 1939، حيث يقول إن "الفنون الجميلة هي عنوان تمدّن الأمم، والدليل على ما بلغته من درجة السموّ الروحاني، لأنه الداعي إلى إلى حبّ الفنّ والميل إليه والولوع به هو حبّ الجمال، والباعث لنشاطه لطاقة الذوق، ورقّة الإحساس، وقوّة الشعور الحيّ".
وفي أعماله الفنية المخطوطة تمتزج بعناصر زخرفة نباتية أو هندسية موصولة أو تشترك العناصر الزخرفية النباتية والكتابية في الأشرطة والحشوات بأشكال مختلفة وأوضاع متباينة، بحيث تهمين الكتابة والحروفيات على اللوحة، كما خطّ في لوحاته آيات قرآنية وقصائدَ عربية وكذلك نسختين من الإنجيل، وغيرها من المأثورات التراثية أو كتابات ذات مضامين سياسية وتحمل مقولات إصلاحية أو دعوات للنضال ضدّ المستعمر.