تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الرابع عشر من نيسان/ إبريل، ذكرى ميلاد المؤرخ السوري قسطنطين زريق (1909 – 2000).
في تنظيراته المتعدّدة حول الوعي القومي ونهوض العرب حضارياً، كان قسطنطين زريق الذي تحلّ اليوم الأحد ذكرى ميلاده، يستند إلى العقل سبيلاً وحيداً للخروج من المأزق التي تكبّل العالم العربي، ولم يكن يستهويه إلقاء اللوم على مؤامرات الخارج وأطماعه فحسب، بل كان مؤمناً بأن الجمود الفكري سبب العجز الأساسي في مواجهة الخصوم والأعداء.
ورأى المؤرخ السوري (1909 – 2000) أن نيل الحرية والكرامة لا يتحقّق من غير العلم الذي يؤمّن القوة والمنعة للأمم، حيث يشدد في كتاب "أيّ غد؟" على "الإيمان بأن أقوى عدّة لنا في بناء مجتمعنا الحاضرة والمستقبل، في عصر تكاد الحياة كلها فيه تكون قائمة على العلم، إنما هو العلم ذاته"، مترجماً هذه الفكرة بمقارنات واضحة وبيّنة بالإنفاق والاهتمام بالبحث العلمي الذي يظلّ في آخر سلم أولويات البلدان العربية قياساً بالغرب.
يتمايز عن معظم دعاة القومية الذين نزعوا نحو تعظيم الأخطار الخارجية بدلاً من النقد الجذري للواقع
يتمايز زريق بذلك عن معظم دعاة القومية العربية في المشرق العربي، الذين نزعوا نحو تعظيم الأخطار الخارجية، مبتعدين عن النقد الجذري للأوضاع العربية، بل إن كان يعتبر اضطهاد المفكرين والكتّاب على مرّ التاريخ العربي أحد أبرز عوامل انحطاطها وضعفها، وهو ما يقود إلى مسألة ثانية تتعلّق بإيمانه بحق الشعوب في بناء مستقبلها، وأن التقدّم مرتهن بهم لا بالأنظمة.
وعارض كلّ التبريرات التي تحدّ من إرادة الإنسان وحريته تحت أيّة مسوغات وذرائع كانت، فالنهوض بالنسبة إليه لا يمكن تحقّقه ما لم تتكسّر القيود والأكبال التي تغلّ العقل، كما يوضح في كتابه "في معركة الحضارة: دراسة في ماهية الحضارة وأحوالها في الواقع الحضاري"، حين يقول: "بالعقلانية تدرك (الشعوب) أن مشكلتها الأولى هي التخلف الحضاري، وبها تقدم على محاسبة ذاتها، وتحنّ إلى التحضّر، وتؤمن بالحقيقة وبالعقل، وتتطلع إلى المستقبل، وتتفتح للخير من حيث أتى، وتولّد قدراتها الإنتاجية، وتحقق إمكاناتها البشرية، وتضبط ثوريتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
زريق المولود في حيّ القيمرية الدمشقي لعائلة عربية سورية أرثوذكسية، والذي نال درجة الدكتوراه في التاريخ من "جامعة برنستون" الأميركية عام 1930، اهتمّ في مؤلّفاته بثلاثة مسارات أساسية: الأول يتصل بتحقيقه لعدد من الكتب النادرة في التراث العربي، والثاني اشتباكه مع القضايا الملحة والراهنة والحساسة في الواقع العربي، وفي مقدّمتها فلسطين، حيث وضع مؤلّفاته الشهيرة "معنى النكبة"، و"معنى النكبة مجدداً، و"نحن والتاريخ: مطالب وتساؤلات في صناعة التاريخ وصنع التاريخ"، والثالث تنظيره في القومية العربية، في كتبه "الوعي القومي: نظرات في الحياة القومية المتفتحة في الشرق العربي"، و"هذا العصر المتفجر: نظرات في واقعنا وواقع الإنسانية".
انعكست آراؤه في طبيعة مواقفه التي اتخذها في أثناء توليه مناصب في الحقل الأكاديمي، حيث استقال من رئاسة جامعة دمشق عام 1952، بعد مواجهة وقعت بينه وبين العسكر حين منعهم من دخول الحرم الجامعي بحثاً عن طالب رفض تسلّم شهادته الجامعية من رئيس الدولة، لكنهم دخلوها قسراً، وتكرّر الأمر ذاته حين كان رئيساً للجامعة الأميركية في بيروت، حيث قدّم اعتذاره في مؤتمر صحافي عام 1954 وأعلن استقالته بسبب فصل عدد من الطلبة المنخرطين في الحراك المعارض لحلف بغداد آنذاك.