تختلف رحلة المصور الفرنسي جول جيرفيه - كورتيلمون (1863-1931) إلى مكة المكرمة في العام 1894 عن باقي رحلات الغربيين الذين قصدوا أرض الحجاز، بأن دوافعه كانت إيمانية، إذ اعتنق الإسلام في تلك المرحلة، وأراد أن يؤدي فريضة الحج. ورغم أننا لا نعرف ما الذي حصل معه في ما بعد، هل استمر على إسلامه حتى وفاته؛ أم لا، ولكن المؤكد أنه حج وهو مسلم، كما يتبين من النص الجميل الذي دوَّن فيه وقائع رحلته، ونشره في العام 1896 بعنوان "رحلتي إلى مكة".
ولد جيرفيه - كورتيلمون قرب باريس في العام 1863م، غير أنه نشأ وترعرع في الجزائر، حيث أظهر منذ يفاعته اهتماماً غير عادي بفن التصوير والبحث عن الغرائب، فطاف في أراضي السلطنة العثمانية ومصر وتونس والمغرب وإسبانيا والهند والصين، وأسس في باريس غاليري لعرض الشرائح المصورة التي تشكل موضوعات متكاملة عن المناطق التي كان يزورها. وفي الحرب العالمية الأولى التقط في ساحات القتال أولى اللقطات الملونة التي عرفها فن التصوير الفوتوغرافي في العالم، ونشر عدداً كبيراً من الكتب المصورة، وعمل في مجلة "ناشيونال جيوغرافيك" الأميركية، وترك وراءه تراثاً فوتوغرافياً عظيماً تحتفظ بمجموعاته مؤسسات مختلفة حول العالم.
الحاج عبدالله بن البشير
بعد أن اعتنق الإسلام في الجزائر وأطلق على نفسه اسم عبدالله بن البشير، قرر جيرفيه – كورتيلمون التوجه إلى الحج بصحبة مجموعة من الحجاج المغاربة انطلقت السفينة التي أقلتهم من ميناء الصويرة المغربي، ولكن السفينة تحطمت قرب ميناء جدة، فنجا الركاب وأمتعتهم. وبعد صعوبات جمة؛ نجح رحالتنا وأصحابه المغاربة، بالعبور إلى مركز الجمرك والفحص الطبي، فأثارت هيئته ولباسه ريبة رجال الشرطة العثمانية، خصوصاً أنه لم يكن يجيد التركية، أما عربيته فكانت مشوبة باللهجة الجزائرية، فتم اقتياده إلى مركز احتجاز لولا تدخل المطوف المغربي الحاج أكلي الذي شرح للشرطة الوضع، فأطلقوا سراحه، ولكنهم وضعوه تحت المراقبة الدقيقة، الأمر الذي دعا الحاج أكلي لأن يطلب منه تغيير مظهره وحلاقة شعره وارتداء لباس غير اللباس الأوروبي.
اصطحب الحاج أكلي رحالتنا بجولة في ميناء جدة، وكان ذلك في صيف لاهب كما يبدو، فألفى المدينة تتثاءب تحت شمس حارقة أدخلت الكآبة إلى نفسه، وكانت أسراب الناموس التي تنقض على الناس في جو من الرطوبة الخانقة، قد أضافت بعداً آخر لهذا الجو المرهق؛ الخالي من أي مساحة خضراء؛ يمكن أن تكسر رتابة اللون الأصفر الترابي الذي يحيطه من كل جانب، ولكنه يفاجأ بشوارع المدينة وبازارتها الممتلئة حيوية كون جدة مركزاً تجارياً كبيراً. أما بيوتها فلاحظ أنها محكمة البناء، وجدرانها مبنية بالحجارة، مزينة بأجمل أنواع الرواشن. ويحدثنا رحالتنا عن زيارته في صباح اليوم التالي لمقام أمنا حواء، قبل أن يطوف في شوارع المدينة قرب السور الذي يقول إنه يحميها من هجمات البدو. ولكنه يلاحظ أن هذا السور قد تآكل في بعض المواضع، وهو ما يشكل خطراً محتملاً، بحسب رأي محدثه الحاج أكلي الذي انتقد بشدة تهاون العثمانيين.
التوجه إلى مكة
في اليوم التالي قرر الحجاج المغاربة ومعهم رحالتنا التوجه إلى مكة المكرمة على ظهور الحمير، رغم أنه كان يحلم بالسفر إليها على ظهر جمل، نظراً لأن الجمل هو المطية الحقيقية في هذه الصحراء المقفرة، كما يقول. ويردف: إنه حيوان خلق من أجل الصحراء لمواجهة وحشة هذه البلاد العتيقة. ولكن كان عليهم أن يقضوا يومين في السفر، ولذلك قرروا استئجار الحمير المدربة على هذا الطريق، والتي لن يستغرق مسيرها أكثر من يوم واحد من دون تبديل الرواحل.
توضأ رحالتنا ولبس ثوب الإحرام، وامتطى حماره، عاري الجذع حليق الرأس في الساعة الثانية ظهراً، تحت شمس لاهبة، وهو يتهيب من إصابته بضربة شمس. ويقول واصفاً الطريق: "سرنا في سهل رملي نحو 16 كيلومتراً، قبل أن يرتفع الطريق بشكل مباغت ليسير بين مرتفعات جبال الحجاز الجرداء التي تشبه البراكين الخامدة وتبدو كحبات مسبحة طويلة (..) بدا من بعيد مركز تركي يحتل مرتفعاً، يحجب عنا رؤية الأفق، ويلتمع في أعلاه ضوء مصباح يريد أن يقول: نحن هنا مستعدون لأي طارئ".
في منتصف الطريق صادفوا قوافل جمال تسير على كثبان الرمل من دون أن تحدث صوتاً في مشيتها، وقد أثار صمت قادة هذه القوافل ريبة رحالتنا ورفاقه الذين ظنوا فيهم مختلف أنواع الظنون الشريرة، ولذلك لم يمكثوا في قرية حدّة طويلاً كما خططوا سابقاً، بل تابعوا رحلتهم بعد أن أدوا الصلاة جماعة، وتناولوا وجبتهم المكونة من البيض المقلي بزبدة الغنم. وبينما كانوا يجتازون كثبان الرمل الكبيرة بدا الهلال له باهتاً، يكاد لا يضيء أكثر من ضوء النجوم، فدخل في حلم بين الصحو وبين النوم، وأخذ يهجس بمصيره، وحياته الماضية، ومستقبله وذكرياته في البلدان التي زارها، من غرناطة وقصر الحمراء، إلى طليطلة وأسوارها القديمة، وغروب الشمس في إشبيلية على برج الذهب، وملقة، وطنجة، وقمر تلمسان، وعدو الخيالة في الجنوب الجزائري، ثم دمشق، وبورصة، وإسطنبول، والقدس، والقاهرة، وأثينا، وضواحي باريس، وأودية فرنسا وحدائقها وأزهارها، وذكريات عائلته، وأمه، والأصدقاء الذين ودعوه بحزن كبير ظناً منهم أنه لن يعود.
أخيراً يصلون إلى مكة المكرمة فجراً ودخلوا الأرض الحرام، حيث كان ثمة عمودان إسمنتيان، يحرم الصيد أو قتل أي كائن حي بعدهما. وبالفعل شاهد رحالتنا أسراب الحجل، وخطَّاف الصحراء وهي تدرج أمامهم من دون خوف، لأن البشر أصبحوا أمامها مبعث طمأنينة، كما شاهد أسراب الحمام البري تحوم حولهم مشكلة سحابات في السماء، أو حينما تتوقف تحت أرجل رواحلهم بألفة شديدة، كما لاحظ وجود فراخ القمري المتخلفة عن الأسراب وكأنها كانت تنتظر من يدوسها، وهو ما أثار بداخله رعباً من ارتكاب هذه الجريمة، كما يقول.
صلاة المغرب في الحرم الشريف
بعد أن يتجاوز وصحبه أحد منعطفات الطريق، يجد رحالتنا نفسه في المدينة المقدسة، التي تختبئ بين جبلين يقتربان من بعضهما البعض، حيث لم يعلم بدخوله المدينة إلا بعد السير في شوارعها، إذ لم يكن ثمة مكان يتيح لقطة بانورامية للمدينة، فالشوارع تتتابع، وكلها تتشابه وصولاً إلى الحرم الشريف المتواري في مكان أسفل المدينة.
يقول جيرفيه - كورتيلمون واصفاً لحظة دخوله الحرم: "بعد ترحيب المطوف عبد الرحمن بوشناق، دخلنا فناء الحرم الشريف وهو المسجد الكبير الوحيد في مكة المكرمة، الكعبة المشرَّفة تشمخ أمامنا بجلال، تحيط بها كسوتها السوداء المزخرفة (..) عند وصولي بادر المطوف قائلاً: أخي، أرجو ألا تعتقد بأنك تعبد هذا الحجر، أو هذا القماش، أو الذهب الذي يحيط بها، أنت هنا في مركز العالم، يتجه إلى هنا جميع المصلين في العالم الإسلامي، أنت هنا قريب من الله. كانت الساعة تقترب من السادسة، وثمة بصيص ضوء وردي يضفي على الموجودات مسحة ندية. جلسنا في ساحة الحرم الشريف تتنازعنا مشاعر الحب الجلال. وبعد هنيهة تأمل بدأنا بأولى الصلوات. لقد شربت بانتعاش كبير من ماء زمزم حيث كنت أطلب المزيد منه".
ويحدثنا رحالتنا عن بعض المرويات الأسطورية التي يتداولها العامة عن ماء زمزم، من قبيل أن غير المسلمين يشرقون عند شربهم منه، وأن أصحاب النية السيئة سيجدونه كريهاً.
ويصف لنا جيرفيه – كورتيلمون صلاة المغرب في الحرم فيقول: "عشرون ألف مصلّ متراصون بصفوف منتظمة، يقفون بخشوع. بسم الله؛ يسود صمت مطبق أروقة الحرم الشريف، وتمتلئ القلوب بالإيمان. الله أكبر، يرد الجميع بصوت واحد خافت: الله أكبر. ولكن عدد المصلين الكبير يجعل الصوت هائلاً مفعماً بالإيمان، يتردد لمدة طويلة مع ركوع المصلين. تتواصل الصلاة، وتتواصل معها جباه المصلين في ملامسة الأرض مرتين خضوعا لله، ثم تتوالى الركعات في حركات هادئة ممتلئة بالجلال، فيزداد المصلون وقاراً إلى أن تنتهي الصلاة بالسلام".
بعد انتهاء الصلاة يخبرنا رحالتنا بأن "المصلين يستمرون بالجلوس في حالة من التأمل وهم يسبحون ربهم بالمسابح المصنوعة في غالبيتها من العاج، وشيئاً فشيئاً يهبط الظلام ويلقي بظلاله على الحرم الشريف. وبعد أن يصبح الظلام أكثر حلكة، يعود المؤمنون بأرديتهم البيضاء إلى الطواف من جديد، يتحركون، كالظلال فوق بلاط صقيل حول الكعبة المشرفة، وتضاء مصابيح فتنير الحرم وتضفي على المكان جمالاً خاصاً. ويبدأ الناس بالتحاور فيما بينهم، وتزداد الحركة باتجاه الأبواب إلى أن يغادر الجميع".
بعد ذلك يحدثنا عن بيوت مكة المكرمة التي يحتل فيها السطح في هذا الوقت من السنة أهمية خاصة، فالسطوح كما يقول هي شقق سكنية من دون سقوف، محاطة بجدران منخفضة مبنية من اللبن المتراص على شكل مربعات مرتبة، وبينها فراغات. ويقول إن هذا الترتيب يسمح بمرور الهواء بكل حرية من دون أن يكشف الجار بيت جاره. ويلفت النظر إلى أن أهل مكة يصعدون إلى هذه السطوح لكي يناموا فيها طوال شهور عديدة من السنة. ويقول إن سطح البيت الكبير يقسم إلى طبقات، فيغدو على شكل مدرج لكي يصبح أكثر ملاءمة وستراً. ويضيف: إن سطح البيت هو المكان الأكثر إمتاعاً، فيه ينام الناس على الحصر، ولا يحتاج المرء فيه إلى أغطية.
إخفاء الكاميرا
يخبرنا أنه كوَّن صداقات في المدينة المقدسة، ومن أبرز من صادقهم رجل من أصل مغربي يدعى عبد الواحد يعمل في دباغة الجلود، متزوج من هندية، وقد تعرف بفضله على أدق تفاصيل مكة المكرمة وضواحيها. وذات صباح صعد مع صديقه عبد الواحد إلى قمة جبل أبي قبيس، وهو يخفي الكاميرا في سجادة الصلاة، طمعاً بالتقاط صورة بانورامية للمدينة المقدسة. وفي ذلك يقول: "كان الخطر مضاعفاً في هذا اليوم، سواء لجهة تسلق الجبل الوعر، أو لعدم التوجه للصلاة في القبة التي تحتل القمة. كان خطر إثارة انتباه حراس المقام الذين يترصدون ما يحمله الزوار ماثلاً. ولكي نؤدي الصلاة في هذه القبة كان ينبغي مد السجادة التي أخفيت بها عدستي المكبرة التي لم يكن بوسعي إخفاؤها في مكان آخر. ولذلك تسلقنا الجانب الوعر من الجبل بهدوء من دون ان ننظر خلفنا. ما أروع المشهد من الأعلى. المدينة كلها تمتد أمام ناظرينا، ومن حسن حظنا أن الجو كان صحواً، بحيث نستطيع أن نرى بوضوح تام أي جسم في الحرم الشريف مهما كان صغيراً. أخذت الكاميرا لالتقاط صور بانورامية، فالتقطت الصورة الأولى، فالثانية، فالثالثة، فالرابعة، فالخامسة. التقطت هذه الصور كلها وأنا خاضع لتأثير خاص، كما لو أني أنجزت للتو عملاً خارقاً".
لقد كانت اللقطات الخمس التي التقطها للمدينة المقدسة هي الأولى لمكة المكرمة، وهي الصور الأكثر بلاغة من أي وصف، بحسب تعبيره، فهي تسمح بتقديم تصور دقيق عن الأهمية الروحية لهذه المدينة عند المسلمين. وهكذا وجد جيرفيه – كورتيلمون طريقة لتصوير المدينة المقدسة وذلك بإخفاء الكاميرا في الأغراض، مع مراعاة عدم الاقتراب من مقر الشريف أو الباشا العثماني، أو الوقوف في الأسواق والبازارات، فإن ذلك سيكون حماقة وأسلوباً مفضوحاً، خصوصاً أن المطوف الحاج أكلي تفهم الأمر ولكنه شدد عليه ألا يلتقط لقطات للبشر، وأن يكتفي بالتقاط صور للجمادات.
وصف المدينة
جاب جول جيرفيه - كورتيلمون شوارع وبازارات مكة المكرمة بأمان، بصحبة عبد الواحد، أو برفقة الدرويش الجزائري أو أحمد بوشناق، وكتب وصفاً لحركة البيع والشراء، وأنواع البضائع التي تباع فيها، مثل الأحزمة، والعمامات، والقفاطين، والزيوت العطرية مثل زيت خشب الصندل، والمسك، والمشغولات، والخناجر التي يطلق عليها هناك اسم "الجنبية"، والتي يقول إن أعراب البادية يتمنطقون فيها.
ويشير جيرفيه – كورتيلمون في معرض وصفه للمدينة المقدسة إلى أن عدد سكانها يربو على المائة ألف نسمة، ثلاثة أرباعهم من الهنود، وأن القوانين الحالية باتت تسمح للحجاج بالبقاء في المدينة، بعد أن كان ذلك ممنوعاً فيما سلف من الأيام، حيث كان يطوف المنادون بعد انتهاء فريضة الحج في الشوارع؛ وهم يحثون الحجاج على العودة إلى ديارهم التي أتوا منها.