رحيل زياد العناني: قصيدة تتبرّأ من شبهة السُّلطة وآثامها

27 مايو 2024
زياد العناني (1962 - 2024)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- زياد العناني، الشاعر الأردني، قدم أعمالاً شعرية في التسعينيات تجاوزت النمطية بنقدها للبنى الاجتماعية والدينية والسياسية، متميزة بالجرأة والتفرد ومواجهة النقد والرقابة.
- استكشف العناني في شعره أعماق الذات والوجود الإنساني، متناولاً موضوعات كالإنسانية والألم، بلغة شعرية مكثفة، متركًا بصمة واضحة في الأدب العربي بتجاوزه للمألوف.
- ترك إرثًا شعريًا يتسم بالجرأة والأصالة، مؤثرًا في جيله والأجيال القادمة، وتظل قصائده شاهدة على قدرته على التحدي والإبداع، محفزة القراء والكتاب على التفكير حول الوجود والحرية.

في عقْد التسعينيات، كتَب الشاعر الأردني زياد العناني، الذي رحل أوّل من أمس السبت، جملةً شعرية فارقة عن مشهدٍ لم يعتد المسّ بالبُنى الاجتماعية والدينية والسياسية؛ جملةً لا تشبه كلّ ما يُقال في معارضة السلطة ونقْد المجتمع، إذ تتخلّص من العقم الأيديولوجي ومن سقم الإنشاء المدرسي الذي قيّد التفكير والمخيّلة.

بدت تلك الجملة خارجة أيضاً عن مدوّنة جيل التسعينيات الذي انشغل عدد من المنتسبين إليه بتقديم اقتراحات جمالية وفنيّة، لم يتمكّن معظمها من الاستمرار وتثبيت أثر خاص، إلّا أنّ العناني (1962 - 2024) يشترك مع مجايليه في رغبة القطع مع أيّة أبوّة شعرية، تعبيراً عن مظلمةٍ لا يمكن إنكارها في ما يتعلّق بخفوت النقد تجاه تجارب هذا الجيل، وغياب روافع حزبية وسياسية قياساً بالعديد من التجارب الأدبية في مراحل سابقة. 

لكن الشاعر الراحل مضى في تحطيم الأب إلى أقصى مدى، وفي تهشيم صورته بكلّ تمثّلاتها إلى حدّ أزعج الرقيب الذي منَع مجموعته الشعرية الأُولى "خزانة الأسف" الصادرة عام 2000 (لم يضمّ زياد مجموعة أسبق بعنوان "إرهاصات ناعور" إلى سيرته الشعرية) وهي لا تزال ممنوعةً حتى يوم رحيله، دافعاً إلى المتلقّي نصّاً حيّاً كثيفاً في الشكل والمعنى، حرارته لم تبرد للحظة، بما يثيره من أسئلة حارقة. يقول مقطعٍ تضمّنته المجموعة: "المئذنة/ فحولةُ الصّوتِ البعيد/ من أنّثها؟".

قصيدتُه باتت أكثر تفجّعاً بمصير الإنسان ومرارة وجوده

لم يُؤخذ زياد العناني بالحظر، ربّما فطن إلى أنّ الوقت لا يحتمل انشغالات جانبية (أصدر سبع مجموعات في تسعة أعوام فقط)، كان مذهولاً باللعبة الشعرية التي منحته الفرح كطفل حُرم اللهو دهراً، وعثر على أدواته ليشاكس بها أنظمة الكون، ويُغيظ من خلالها الرقباء والأوصياء، وشعاراتهم التي تُبرّر نفي الإنسان وانفصاله واغترابه عن نفسه وافتقاده معنى الحياة، وحفاظه على وجوده الزائف.

في القصيدة التي تحمل مجموعةُ "خزانة الأسف" عنوانها، يكتب: "وُلدتُ بين مأتمٍ/ ومَأتَم/ وعشتُ بين مأتمٍ/ ومأتم/ فيما القردُ شبيهي/ وأبي/ يعزفُ أغنيةَ البهجةِ/ فوقَ الأشجارْ". بعد هذه المجموعة، كان زياد مهموماً بالكتابة بوصفها فضاءً للبحث عن الذات والمعنى وكسر المحرّم، والنشر باعتباره إعلان وجود ووثيقة ميلاد تقطع مع الخوف الذي شكّل البشر في انتماءاتهم العقائدية والوطنية والوجودية.

هكذا صنع زياد العناني جناحين وطار بهما في مطلع الألفية الثالثة، وعبّر عن مشاعره وأفكاره بحرية وجرأة تعكسها أكثر من مقابلة صحافية أُجريت معه، وكذلك سعيه الجادّ والدؤوب على اجتراح معادلةٍ شعرية تستوعب مغامرته واجتهاداته، ويشير إليها من خلال تثبيته أسفل قصائده المنشورة عقب إصدار مجموعته الأُولى أنّ هناك مخطوطات ثلاثاً في درجه، مقترحاً لها عناوين ستتغيّر عند نشرها، وهي: "بدايات عاصفة في تدخين الأسئلة"، و"قصائد الوميض"، وكتاب بعنوان "العداء المستحكم بين أفلاطون والشعراء".

ترَك أثراً لأنّه أشبه بصرخة برّية لا تؤطّرها أيديولوجيا

لا نعلم إلى اليوم شيئاً عن هذا الكتاب، وهل دوّن الشاعر تنظيرات حول الفيلسوف اليوناني الذي أقصى الشعراء عن جمهوريته الفاضلة، أم أنّ تأمّلاته ذابت في متن القصيدة؟ سؤال يحيل أيضاً على تطوّر قاد إلى اختيار أجمل وأنضج عناوين المجموعات اللاحقة. والأهمّ من ذلك كلّه، إخلاص الشاعر لصوته الذي حرّره من "شوائب" ماغوطية بشكل أساسي، كان يمكن أن تقصّر عُمْر تجربته وتحدّ من مساحة إبداعه.

حدَث ذلك في وقتٍ قياسي كما بركان ثارت حمَمه ولم تهدأ، على نحو يعادل مكبوتاته وحرماناته وربما يفيض عنها، ويمضي العناني في الهدم وتعرية المسكوت عنه في قصيدته التي باتت أكثر تفجّعاً بمصير الإنسان ومرارة العيش وقدره الأعمى، ليختزن الألم وحده تشكّله البشريّ وذاكرته الشخصية والجمعية أيضاً، مثلما فعل في مجموعاته "في الماء دائماً وأرسم الصور" (2002)، و"كمائن طويلة الأجل" (2003)، و"مرضى بطول البال" (2003)، و"تسمية الدموع" (2004).

بقصيدته النافرة رسم حدود مغايرته وموقعه على الخريطة الشعرية

تقصّد زياد صدمة قارئه بأسلوبٍ لا يتلفت إلى تزويق الحقائق أو النزول عن شجرة الأسئلة والقبول بتدجين الإنسان وتكيّفه مع اشتراطات السلطة، وتكامَل ذلك مع سلوك شخصي عابث وصاخب و"سلاطة" لسان طاولت الأصدقاء قبل الخصوم، ورفض لأيّة تنازلات تقلب بنية القصيدة واقتناصها لمعانٍ حرجة ومفارقات كاشفة.

بهذه القصيدة النافرة، رسم حدود مغايرته وموقعه على الخريطة الشعرية. وهنا، لا يمكن تجاهل حقيقة أن ذلك وقَع في الأردن، الذي لم يعتد وسطه الثقافي وسلطات الواقع، تمرّداً لا يفضي إلى استيعابه ولا ينتهي بإخضاعه، أو جعله مجرّد "حردٍ" على ترضية أو مكرمة فاتته. ويمكن القول إن هذا التمرّد ترك أثراً أمضى لأنّه أشبه بصرخة برية لا تؤطّرها أيديولوجيا وموقف عقائدي.

يسجّل زياد العناني في قصيدته "بترا": "ندري ثمّة أوطان تتلى في زمن المحفوظات/ وندري أنّ التاريخ يعدّ بنسخة واحدة/ وندري أنّ الستائر حاضرة وأنّ الأرشيف يحمل في تلافيفه من الحشرات أكثر من القصص وأنّ الهواء يختنق بنفسه وأنّ الغبيّ يتهجّى لغة ليست له، وأنّ أهمّ الرعاة هو الكلب وأنّ الخمرة لا تُذهب العقل وأنّ الشعوب تتعرّض للإبادة، ولكن ما من شعب إلّا ويظلّ له بعض النجاة أو الرواة الحاذقين على الأقل/ ما من شعب إلّا وله عدّة أرواح ومعجزة".

كطفل حُرم اللعب دهراً وعثر على أدواته ليشاكس بها أنظمة الكون

ويمكن القول أيضاً إنّ زياد العناني شغَل قرّاءه في أحد عشر عاماً قبل أن يُصاب عام 2011 بجلطة دماغية أقعدته عن الحركة والكلام، وهؤلاء لوّحوا له خلال اليومين الماضيين على وسائط التواصل الاجتماعي، مستذكرين مقاطع من شعره، وكأنّهم يهتفون بصوت واحد نشيد الوداع، أو الاحتفاء بصعود شاعرهم الذي ربّما أتعبه الصمت والفرجة، وغادرهم إلى موطن أجمل لكتابة القصيدة.

في "شمس قليلة" (2006)، واصل هجاءه للطاغية الذي "يسقط مغشياً على الدولة ويمضي"، ولسلطة الحقيقة المطلقة في الشرق، وللحرب التي "تأتي على الغابة"، وللوجود الذي يسقط أصدقاءَ وأشياء حميمة وخسارات أمام امرأة متخيَّلة وحالات فقد تدفعه للعودة إلى رحمٍ أدفأ وعتمة أنقى، فيكتب: "ليس لي بلدٌ/ ليس لي قبرٌ/ وليس لي حتى امرأةٌ/ إذا متُّ/ تركض في الفراغ/ مبددةً/ نعيها".

ويفتتح مجموعته "زهو الفاعل" (2009) ببيتٍ لبشّار بن برد: "أقام في بلد حتى بكى ضجراً/ من بعضها وبكتْ من بعضه بلد"، وهو بيتٌ توقّف عنده في مقال نشره قبل ذلك بثلاثة أعوام ينتقد فيه دور الشاعر ومهمّاته في الثقافة العربية، يصفه بأنّه "كائنٌ يمكن أن نستعمله مجّاناً، ويمكن أن نسخط عليه، لأنّه ما قال كذا وكيت، معترفين أنّه يقدّم خدمات مثل: خدمات الهلال، أو الصليب الأحمر، أو بعض التكايا التي تقدّم الطعام لعابري السبيل والفقراء، مكتفية بالتربيت على الاكتاف، أو رسم ابتسامة على الحائط، مقدّمة من بلاد واسعة ملّ من تقديرها الشعراء فآمنوا بما قاله الشاعر بشار بن برد...".

رحل زياد دون أن يخبر أحداً بسبب صريحٍ لسأمه، وتركنا في حيرة التأويل. أعود بالذاكرة إلى أكثر من عشرين عاماً حين التقيته أوّل مرّة، وكان ثالثُنا الراحل جهاد هديب، في جلسة صاخبة بالأحاديث والمحبّة والشتائم. ليس عندي صاحباي ولا كأس، وليس معي سوى قولك: "لا أتذكّر ولا أريد أن أتذكّر/ سأنام ما دامت جنّة الوعود نائمة".

المساهمون