عُرف عن المراسلات التي تبادلها كلٌّ من الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821- 1867) ومواطنه الروائي غوستاف فلوبير (1821- 1880)، أنّها كانت مقتضبة، موجزة ومقتصرة على ثلاث أو أربع موضوعات على أكثر تقدير؛ تناولت الكتابة وطبيعتها، بين أمورٍ أخرى.
وتبعاً لمكانة هذين الكاتبين في الأدب العالمي، يمكننا أن نتخيّل البلاغة الأدبية الموجودة داخل هذه الرسائل وما فيها من سيلٍ من الصور، والحجج، والحجج المضادة، والمبالغات، والفروق الدقيقة جداً.
في كتاب "أنتَ لا تشبهُ أحداً"، الصادر مؤخراً عن دار نشر "ألفا ديكاي" الإسبانية، تُجمع الرسائل الأربع عشرة التي تبادلها "عرّابا" الحداثة الأدبية؛ أحدهما في الشعر، والآخر في الرواية.
وعلى الرغم من أنّه لا يُعرف بالتحديد متّى وأين التقيا، فإن صاحب الطبعة ومقدّم الكتاب، الكاتب الإسباني إغناسيو إتشيفييرا، يبيّن أوجه التشابه والتباين بين حياة وأعمال المبدعين، ويقترح إمكانية أن يكونا قد التقيا في أحد اللقاءات الاجتماعية أو الصالونات الثقافية التي كانت تُعقد كثيراً في باريس الصاخبة في تلك السنوات.
ويؤطر إغناسيو المراسلات في سياقها التاريخي والحيوي والثقافي، بطريقة يسهّل تتبعها تاريخياً. كما أنّه يصنفها من حيث الموضوعات التي تطرق إليها الكاتبان وهي: موضوع الأصالة الأدبية، ودور الكاتب، وكيفية فصل الرومانسية عن تجاوزاتها العاطفية، وأخيراً بعض الرسائل التي ركّز فيها الاثنان على بعض الآراء والأحكام التي أثارها ديوان "أزهار الشر" (1857) لبودلير؛ ورواية "مدام بوفاري" (1856) لفلوبير.
ويتساءل إغناسيو في كتابه بعدَ تأطير الرسائل وترتيبها تاريخياً وتصنيفها تبعاً لموضوعاتها إن كان بودلير وفلوبير صديقين حقاً؟ "لا شك أنهما تعاملا مع بعضهما على أنهما صديقان، على الرغم من مساراتهما المتباينة. فقد تعاملا مع بعضهما بلطفٍ كبير، وقدما لبعضهما نصائح أدبية في غاية الأهمية، كما أنه لا يمكن أن ننسى أنهما كانا ينتميان إلى الطبقة الاجتماعية نفسها. ولكن على الرغم من هذا كله، يصعب الحديث عن علاقة صداقة قوية. إذ لم يكن ثمة مكان لها. التقيا في مناسباتٍ قليلة، وبالكاد تحدّثا إلى بعضهما فيها. إلّا أن المرسلات التي تبادلها تبرز أنهما كاتبان لا يمكن دونهما فهم المشهد الثقافي الفرنسي"، يعلّق جامع الرسائل.