بيروت ١-٧-١٩٦١
فائزة العزيزة..
أقول لكِ الحقّ.. لقد كانت دهشتي لرسالتكِ أشدّ من دهشتك للإهداء الصغير الذي رفعتُه لكِ..
لماذا أهديتكِ الكتاب؟ تسألين هذا السؤال في رسالتكِ وكأنّكِ لا تعرفينني، ولا تعرفين نفسكِ، ولستِ تُحسّين هذه العلاقة بيني وبينكِ.. ولكنني حينما قرأتُ سؤالكِ لم أمرّ به عارضاً، سمعتُه يدور في رأسي كنحلةٍ ضاعت عن عشّ العسل.. نعم، لماذا؟ وحينما طويتُ رسالتكِ كانت هذه اللماذا اللعينة تحفر ضلوعي بمعوَلٍ مدبّبٍ..
لماذا أهديتك الكتاب؟ تسألينني في رسالتك وكأنك لا تعرفينني
نعم، لماذا أهديتُ الكتاب لكِ؟ لماذا لم أُهْدِهِ، مثلاً، لواحدةٍ من أولئك اللواتي عشنَ مع شبابي: إرواءً لعطشه، ومرفأً لحنينه، وواحةً ــ كاذبة أم صادقة ــ للجدْب الذي أعيش فيه؟ لماذا لم أهده إلى "اللاجئ" الممزوع في التشرّد، والذي كان وحياً عميقاً له؟ لماذا لم أهده إلى الرفاق الذي مزجوا عرَقهم بعرَقي في الطريق الطويل؟ لماذا لم أهده إلى والديّ اللذين عاشا من أجل أن يرياه على ورق؟ لماذا لم أهده إلى أيّ أخٍ لي أحبُّه كما لو كان ذراعي وكبدي؟ نعم.. لماذا لم أهده إلّا لكِ أنتِ؟
أيّتها الغالية، لأنكِ أنتِ كلُّ هؤلاء معاً.. أوَلا تعرفين هذا وتُحسّينه كما أحسّه أنا؟ لأنكِ كنتِ الواحةَ والنبعة والمرفأ.. لأنكِ كنتِ الرفيق الذي ما زال عرق الشوك يتصبّب من راحتيه.. ولأنكِ كنتِ اللاجئ الذي رزح، وحمل، وسار.. ولأنك كنتِ، وما زلتِ، أبي وأمّي وإخوتي..
لقد حمَلتني رسالتُك القصيرة إلى رحلة أطول من كلماتها.. بيتنا في القنوات. أتذكرين حينما كنتِ تقرأين كلّ حرفٍ أكتبه، سخيفاً أو مبشّراً؟ أتذكرين حينما كنتِ تصحّحين أخطائي، وحينما كنت تقترحين، وتُرشدين، دون أن تحملي إليّ الإهانة والتعجيز؟ أوَلستِ تذكرين يا فائزة كلّ ذلك..؟ وماذا حسبتِ؟ أتعتقدين أن كتابي كان شيئاً آخر غير كلّ هذا الذي قمتِ به تجاهي وتجاه القلم العليل الذي تعهّدتيه بالنموّ والعطف؟
أتذكرين حينما كنت تقرأين كل حرف أكتبه سخيفاً أو مبشراً؟
أنتِ لستِ تذكرين، لأنه لا يُهمّك أن تذكري.. هل تستطيع الوردة أن تتعرّف إلى عبيرها حينما تنشره حولها؟ إنها لا تستطيع، لأن العبير هو ذاتُها، هوَ هيَ، ولا تستطيع أن تفهمه كشيءٍ منفصل وآخر..
إنّه أقلّ شيءٍ يمكن لي أن أحمّله اعترافي لكِ، وحبي... ولو استطعتُ لكتبته نُسخةً نسخةً بدمي، من جرحٍ أشقّه في كفّي، تماماً في المكان الذي صافحتِني منه حينما تلاقينا آخر مرّة.. آخر مرّة: شددتِ على يدي فنقلتِ إلى شراييني حُبّاً افتقدتُه زمناً، ثم بعثَ فيّ شعوراً بأنني لست في العراء..
أخوكِ إلى الأبد
غسان كنفاني