ركن المصمّم: مع تمّام العمَر

07 مايو 2022
تمّام العمَر (تصوير: صوفيا براون)
+ الخط -

■ كيف بدأتْ حكايتُك مع التصميم الغرافيكي أو كيف أصبحت مصمّماً؟
أذكر عندما كنت طفلاً، وإثر انقطاع الكهرباء المتواتر، كيف كنّا نصوغ، أنا وأبي وأفراد عائلتي، من انعكاس ظلال ضوء الشمعة عناصرَ جديدة أو بروفايلاتٍ لأشخاص أو حيوانات. أغرتني القدرة المنبعثة من الضوء على بناء تكوينات يراها كلٌّ منّا بطريقته الخاصة، ورغبةٌ لا تنتهي في تجريب المزيد من تلك الظلال على جدران الغرفة. أعتقد أن الرغبة في استعادة تلك التكوينات شكّلت لديّ الرغبة، لاحقاً، في التجريب على الأوراق وأقلام الحبر، لرسْم تركيباتي الخاصّة من الأبيض والأسود. وفي تجميعها ينطلق السؤال دائماً، ماذا ترى؟ السؤال نفسه يراودني إلى اليوم عند صياغة أيّ تشكيل أو شِعار (ماذا أرى، وما هي احتمالاته؟). هذا السؤال جدليٌّ جدّاً في فنّ الغرافيك التجريدي.
من ناحية أخرى، لم أدرس الفنون في سورية، بل القانون، وعملت إلى جانب دراستي في عدّة مكاتب إعلانية، بعد أن طوّرت نفسي أكثر. بعدها حصلت على أوّل عمل متخصّص في مجال الإعلان وصناعة الهوية البصرية للشركات التجارية؛ عشقت هذا العمل، وعندها بدأ سؤالي: لماذا أدرس القانون، لا الفنون؟ بعد سنوات من العمل، تخصّصت أكثرَ في مجال الهويات البصرية وإنتاج الملصقات السياسية.

■ هل تعتقد أن هناك لغة أو هوية تصميمية عربية خاصّة، تعكس ثقافات وهوية المجتمعات العربية اليوم؟
أعتقد بوجود هوية تصميمية واضحة بالطبع، أو هويات شرقية، ولو أنها تعاني ما تعانيه هذه الهوية على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية. لكنْ، بالمعنى الفنّي، يمكننا من خلال البحث أن نجد الكثير من العناصر الفنّية الهامة في فضائنا العربي والشرقي عموماً، تحمل في سماتِها بُعدَها الثقافي والحضاري والبيئي. يمكننا ترجمتها بصرياً من خلال الخطّ العربي، وهو المُميِّز الأهمّ لهذه الهوية، بما يحمله من جماليات واحتمالات بصرية. كذلك لدينا الزخرفات الهندسية (الأرابيسك)، والزخرفات النباتية، وهي أيضاً عامل خاصّ جداً ومميّز. أضفْ إليها الألوان التي يمكن أن نستخلصها من بيئتنا. لكنْ، للأسف، لا يوجد تراكم حقيقيّ لكلّ هذه العناصر كي تشكّل هوية تصميمية راسخة فعلاً. فنحن لا نجدها، اليوم، في الكثير من التصاميم التي تتّجه إلى مقاربات غربية أو غير واضحة الهوية، كالتصاميم التي تعتمد على المينيماليزم واختصار كلّ ما يمكن. لا أنكر جماليّة هذه الأخيرة، لكنّها ليست تعبيراً كافياً عن هويةٍ بالمعنى المقصود في السؤال.

يجد المصمّم الغرافيكي نفسَه أمام فراغٍ كامل عليه ملْؤه

■ هل يمكن تشبيه التصميم بالعمارة، بمعنى أننا نسكن اليوم في فضاء يصنعه المصمّمون؟
تلتقي أغلب أنواع الفنون في سؤال العلاقة بين الكتلة والفراغ: كلّما اقتربنا أكثر من نسْج علاقة جدّية وجديدة بينهما، كلّما توصّلنا إلى نتائج أفضل. تلك هي الحال في العمارة، التي تبدأ من الأرض كحامل وككتلة أساسية يبني فوقها المصمّم المعماري ما يريد. أمّا المصمّم الغرافيكي، فهو أمام فراغٍ كامل يحتاج الكثيرَ من العناصر من أجل ملئه؛ عناصر يصوغها لتصبح وحدة متجانسة وقوية، ولتعطي الرسالة المنتظَرة.
بالمعنى العام لكلمة تصميم، فإننا نعيش، بالتأكيد، في عالم يصنعه المصمّمون: لا أعتقد بوجود شيء حولنا اليوم لم يتدخّل فيه المصمّم، إنْ كان في شكله العام أو تشكليه، استخدامه، ألوانه أو حروفياته (التايبوغرافي). 

■ كيف تنظر إلى التصميم الغرافيكي، وهل تعتبره فناً أم صنعة، ولماذا؟
يجب التفريق بين الفنّان والمنفّذ. تحتاج كلّ أنواع الفنون إلى الصَّنعة من أجل تقديمها أمام الجمهور. فالنحّات والرسّام والمصوّر والموسيقيّ، وكذلك المصمّم ــ كلّهم يحتاجون إلى الصّنعة في تنفيذ أعمالهم؛ وتتطلّب الصنعة تعلّم أدوات الفن  وإتقانها بشكلها الأمثل، كي تستطيع أن تترجم أفكار الفنّانين إلى مُنتَج مرئيّ أو مسموع أو محسوس. في هذا الوقت، تبقى الأفكار الفنّية في انتظار تنفيذها. هنا تكون متعة الفنان في إنتاج فنّه: حين ينفّذ أفكاره بنفسه. للأسف، نرى اليوم أن التصميم الغرافيكي محصور في أذهان الناس في الملصقات والشعارات وإخراج الكتب؛ لم تعد تُرى جوانبه الأُخرى كفنّ أصيل. ولنأخذ على سبيل المثال فقط إنتاجات الفنّان فيكتور فازارلي (Victor Vasarely)، الذي ترك لنا إرثاً كبيراً ومنطقاً جديداً حول قدرة الفنان على صياغة تكوينات لا تنتهي، قادرة على خداعنا في كلّ مرّة نراها.

من أعمال تمّام العمَر
من أعمال تمّام العمَر

■ ما هي أبرز التحدّيات التي تواجه عملك كمصمم؟ 
يتمثّل التحدّي في الدفاع عن حرّية المصمم وهويّته الفنّية، إذ غالباً ما يُحرَم من حريّته في إنتاجاته لكثير من الأسباب، يطول ذكْرها جميعاً، لكنّ أبرزَها استسهالُهُ لعمله، ما يتيح للشخص المسؤول أو الزبون التدخّل في كلّ تفاصيل العمل، وعدم إشراك المصمّم في النقاشات أو الحوارات قبل البدء في العمل، كأنْ يُقال له: "نريد تصميماً يعبّر عن كذا أو كذا، وبهذا الشكل، وبهذه الألوان". غير أن حرّية المصمّم، والنقاشات معه، ضرورية كي يتبنّى منجَزَه ككُلّ، وضرورية من أجل تكوين فهْم جيّد ودقيق لعمله. هنا يكمن جزء كبير من المشكلة باعتقادي: في غياب مكانٍ لحرّية المصمّم، وإبداعه، ورؤيته الخاصّة وشخصيته الفنّية. 

■ المسؤولية الاجتماعية للمصمّم، كيف تراها؟
إذا كنّا هنا نتحدّث عن المسؤولية الاجتماعية باعتبارها خطّاً أخلاقياً، يحمل بُعداً قيَمياً تجاه إحدى القضايا الاجتماعية، فأعتقد أنها خيار شخصي بالمطلَق، وتعود إلى إرادة المصمّم وهويّته الفنية.
من ناحيتي، مع بداية الحراك في سورية، لم أعد أعمل مع أية مؤسّسة تجارية؛ تحوّلت أعمالي بشكل تلقائيّ إلى "الملصق السياسي" للتعبير عن الحراك، وترجمته. تناولت في تلك الملصقات، وأعمال الغرافيتي، الكثير من المواضيع المتعلّقة بالحرّيات والدفاع عن حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، ومناهضة العنف والتحرّش الجنسي. هذه التجربة أضافت لي الكثير على الصعيد الشخصي والفنّي. فأنا لست أمام منتج تجاريّ يُراد الترويج له، بل أمام حدث "معنويّ" أحياناً، أو حتّى حدث عنيف للغاية. وهنا أذكر ملصقين، أحدهما كان تعليقاً على مجزرة، والآخر على حدثِ تحرُّش، وذلك بهدف توعويّ أو حشد الرأي العام.

يمكن لملصق جيّد أن يقول ما تقوله آلاف النشرات الإخبارية

■ كيف تعلّق على غياب ظاهرة المصمم الملتزم بقضايا مجتمعه واكتساح ظاهرة المصمم التجاري أو ذلك الساعي الى العمل لصالح الشركات والمؤسسات والفنية الكبرى؟
تتعاظم اليوم مسؤولية المصمّمين في عالم يستطيع الإعلان والملصق أن يحرّك الرأي العام، فيه، وأن يقول ما تقوله آلاف النشرات الإخبارية والوسائط المكتوبة. عالمنا بحاجة متزايدة لهذا النوع من الفنّ، لكنّ الحياة وسوق العمل يحتاجان أيضاً إلى المصمّم التجاري، بقدر حاجتهما إلى المصمّم الملتزم بقضايا اجتماعية أو سياسية أو بيئية؛ فلا هذا يُلغي ذلك ولا العكس. غياب الالتزام لا يقتصر فقط على التصميم، بل ينسحب على كلّ أنواع الفنون؛ هي حالة عامّة نعيشها في عالمنا عموماً، والعالم العربي خصوصاً. يبقى الالتزام خياراً شخصيّاً للمصمّم، الذي قد يتبنّي القضايا الاجتماعية، أو السوق التجارية، أو يسعى إلى الجمع بينهما. أعتقد أن الالتزام الفنّي في العمل، والتجديد، والإبداع، والإنتاج الأصيل، هو التزامٌ ضروريّ، ومُحِقّ، ومطلوب، وإنْ كانت الرسالة فنّيةً بالمطلق.

■ ماذا أبقت برامج التصميم الإلكترونية للعمل اليدوي، مقارنة بالسبعينيات والثمانينيات مثلاً؟
لا أعتقد بوجود مصمّم لا دورَ للعمل اليدوي في تصميماته، حتّى يومنا هذا. إذ لا تخلو طاولة العمل من الأقلام والأوراق، التي تكتب عليها أولى الكلمات المفتاحية لأي عمل جديد، ودراسات الشكل، ورسم الخطوط الأساسية للعمل. من كلّ هذه الفوضى العارمة تخرج مجموعة مسوّدات، لكنْ لا بد من معالجتها رقَمياً لإظهارها وعرضها على الآخرين. عموماً، لا أنتمي عُمريّاً إلى تلك الفترة التي لم يكن يملك المصمّم فيها سوى أقلامه وأوراقه لإخراج عمله: لا نستطيع، اليوم، إلا نادراً، أن ننتج تصميماً من دون تدخُّل رقمي في إخراجه النهائيّ على الأقلّ. مواكبة هذا التطوّر واستخدام التكنولوجيا لا يقلّلان مطلقاً من أهمّية العمل، بل على العكس. كثيرةٌ هي الأمثلة عن مِهَن عفا عليها الزمن لأنها لم تستطع مواكبة التطوّر.

أحد تصاميم تمّام العمَر
أحد تصاميم تمّام العمَر

■ كيف تقيّم تعليم التصميم الغرافيكي في الجامعات العربية؟ نلحظ غياب معاهد خاصة بالتصميم وحتى نقص في كليات التصميم، ما السبب في رأيك؟
لا أستطيع الخوض في هذا التقييم لأنّني لم أدرس التصميم في الجامعات العربية. لديّ، في المقابل، اطّلاعٌ عام على إنتاجها، وهناك الكثير من التجارب التي يجب الوقوف عندها بوصفها محاولات جدّية أسّسها أساتذة كبار في التصميم: في سورية ــ وهي المثال الذي أعرفه أكثر من غيره ــ يمكن مثلاً ذكْر المدرّس عبد القادر أرناؤوط، والخطّاط منير الشعراني، اللذين وضعا أسساً قوية حول فهْم التشكيل الغرافيكي وقدراته وجماليات الخط العربي في التصميم الفني. أعتقد أنه يجب الوقوف مطوّلاً أمام تجربتيهما، والاستفادة منهما وتطويرهما.
من ناحية أُخرى، هناك تجارب متواضعة جدّاً في كلّيات الفنون في سورية، وعلى غير اتّساق بين النظرية الفنية من جهة وبين التطبيق العملي وسوق العمل ومتطلّباته من جهة أخرى. أمرٌ لا يترك أحياناً من التصميم الغرافيكي غير اسمه. كثيرٌ من المعاهد والمؤسّسات التعليمية يركّز على برامج التصميم وأدواته وسرعة التنفيذ أكثر من تركيزه على تعلم التصميم وفنّ الغرافيك بحدّ ذاته. 

■ ما هو آخر تصميم قمت به؟
أعمل منذ فترة مع مؤسّسة "النساء الآن للتنمية"، وهي مؤسّسة معنية بالدفاع عن النساء في سورية. أنجزنا معاً خلال السنوات الماضية العديد من الملصقات التوعوية وحملات الحشد حول العنف ضد المرأة، والزواج الإجباري، وزواج القاصرات.

الكثير من التصاميم العربية يتّجه إلى مقاربات غربية غير واضحة الهوية

■ هل هناك تصاميم قمت بها وتندم عليها؟
بالتأكيد لا. أحاول جاهداً أن أنظر بعين النقد إلى كلّ ما أنجزته من أعمال، وأراها كمرحلةٍ أسّست لتطوّرٍ ما أصبحتُ عليه اليوم، في الشكل أو الألوان أو الخطوط، أي في العناصر الأساسية التي تحتكم لها جودة التصميم وجمالياته. رغم ذلك، لا يخلو الأمر أحياناً من ندم على التعامل مع هذه المؤسّسة أو تلك، أو مع هذا الشخص أو ذاك.

■ يوصف المصمّمون بأنهم أصحاب شخصيات "صعبة" و"زئبقية"، أي يصعب التعامل معها... هل توافق على هذا، وما هو تفسيرك، وما هي نصيحتك أخيراً لمَن يتعامل مع مصمم؟
طبيعة عمل المصمّم نسجتْ علاقة سيّئة غالباً بين المصمّمين والزبائن أو المؤسسات التي يتعاملون معها، فتحوّلت غالباً إلى معركة إثبات للشخصية، بسبب غياب عنصر الحوار والنقاش الذي من شأنه أن يطوّر فهم العمل. كلّ هذا يحوّل العلاقة إلى صراع أكثر منها إلى فريق عمل. وبالتأكيد، إنّ عدم التقدير لذاتية الفنّان وهويته الفنّية يلقي بعبئه على هذه العلاقة.
رأيي لِمَن يتعامل مع المصمّمين ــ في حال وجود الثقة بالتأكيد، وكي يتبنّى المصمّم العمل الموكل إليه بصدق ــ أنْ يُشرِكه في التفاصيل المهمّة لكلّ جوانب العمل، وأن يتأكّد من وصول الفكرة الأساسية له بطريقة سهلة، وألّا يعطيه تصورات مسبقة حول شكل العمل ونتيجته البصرية؛ من دون ذلك يكون دور المصمّم محدوداً جدّاً، ويتحوّل لمنفّذ لأفكار الزبون أو الجهة التي يتعامل معها.

 

بطاقة
مصمّم وفنان بصري ومصوّر سوري، من مواليد عام 1986 في مصياف، قرب مدينة حماة، ومقيم حالياً في باريس. درس الفنون التشكيلية في جامعة "باريس الأولى ـ بانتيون سوربون"، وشارك في العديد من المعارض الفنّية، ومعارض الفنّ السياسي. عمل كمُخرِج فنّي لعددٍ من الصحف والمجلّات والدوريات، ويعمل مديراً فنّياً في منظّمة "النساء الآن" للتنمية وكذلك في مهرجان "Syrien n'est fait" الذي يُقام سنوياً في العاصمة الفرنسية.

المساهمون