روجيه بول دروا ومونيك عطلان: في معنى الحدود

08 يونيو 2021
روجيه بول دروا ومونيك عطلان، 2011 (فيليب ماتساس)
+ الخط -

في أيّامنا هذه، يعيش العالَم بأسره أزمةَ حُدودٍ، نلمسها في كلّ الحقول: حدود موارِد الطاقة التي تَسارعت وتيرة نضوبها، وحدود تخيُّل المستقبل بسبب غموضه وانعدام القدرة على استشرافه، وكذلك حدود الحَرَكة واللغة والفعل في التاريخ... وهذه هي القضيّة التي تصدّى لها المفكّر روجيه بول دروا بمعيّة الصحافيّة مونيك عطلان، في كتابهما الجديد "معنى الحُدود"، الذي صدر عن "دار أوبسرفاتور" منذ أيّام، وفيه عادا إلى جلّ التعريفات والتصوُّرات التي صاغها مفكّرو الغرب حول هذا المفهوم، طيلة العقود الماضية. وقد تمكّنا من إظهار إلى أيّ مدى يظلّ مفهوم "الحدّ"، ضروريًّا من أجل هيكَلة الفكر والمجتمعات، بل والحياة برمّتها، ضمن جولة أقربَ إلى التساؤل الفلسفي عن فكرة الحدود ومعانيها عبر تَفكيكٍ مَفهوميّ يعتمد تاريخ الأفكار منهجًا.

يرى المؤلّفان، وقد تعوّدا الخوض في غمار تحوُّلات العقل الغربي، أنَّ الانعتاق من هذه المحدوديّة التي تُحاصر الإنسان في وَعيه المجرّد، كما في مَعيشه المادّي اليوم، يقتضي إعادة التفكير في مقولة "الحدود" وإخضاعها للنقد والتحليل. فهل من الواجب أن تُلغى كلّ الحدود، بمعناها الجغرافيّ، كما نادى بذلك مناصرو "الاتحاد الأوروبي" باعتبارها عائقًا فعليًّا أمام فرص الازدهار التاريخيّة التي تُوفّرها قارّة كبرى مثل أوروبا؟ وهو عينُ ما دعا إليه، في النصف الأول من القرن العشرين، دعاة القوميّة العربية، وعلى رأسهم ساطع الحصري (1879-1968) وقسطنطين زريق (1909- 2000)، أم على العكس من ذلك، لا بدّ من إغلاق هذه الحدود وتَشديدها، حتى تستعيدَ دول أوروبا وغيرُها ممّن فتح حدودَه على مصراعَيها، مبدأ السيادة الوطنيّة وتتحكّم في جَحافل المهاجرين واللاجئين، وهذا ذاته فَحوى الخطاب اليمينيّ الشَّعبويّ، الحاضر بقوّة في أوروبّا عمومًا، وفي فرنسا على وجه خاص.

تأكّد هذا السؤال أثناء أزمة فيروس كوفيد-19 التي وضعت الوعيَ الإنسانيَّ وجهًا لوجه أمام قضية "المسافات الاجتماعية"، والإجراءات الاحترازية، ومنها الحدود والقيود التي ينبغي احترامها، سواءً في تنقُّلات المواطنين ضمن الدولة الواحدة، أو بين الدّول المتباعدة، حتى غدا إغلاق الحدود وإعادة فتحها من بين الإجراءات التي تَلجأ إليها الحكومات والدول من أجل الحفاظ على الصحّة العامة.

هل ينبغي إلغاء الحدود الجغرافية بوصفها عائقاً؟

كما أشار الكاتبان إلى وجود بعدٍ بيئي مهمّ في مسألة الحدود وتساءلا: هل على الإنسان أن يتوسّع بلا نهاية ولا ضوابط، كاسرًا كل العراقيل التي تقف في وجهه في سبيل استنفاد المصادر الطاقيّة؟ أم عليه أن يكتفي بما حقّقه في المَجال الحيوي حتى لا يفرط في تدمير موارد الطبيعة وثرواتها التي باتت محدودة هي الأُخرى بفعل الاستغلال المُفرط. وحتى على صعيد تنظيم قوانين المرور وضوابط السير، حصل جدال أخيرٌ، في فرنسا، حول مشروعية تحديد السرعة القصوى في الطرق السيّارة إلى حدود ثمانين كيلومترًا في الساعة، أو إطلاق العنان للسيارات وأصحابها حتى يتمتّعوا "بحق السير"، دون قيد. وقريبٌ من هذا المشغل، ما نادى به أصحاب الدرّاجات النارية من حق تجاوُز السيّارات والمرور عبر مسالكها، فقد تظاهروا في عموم فرنسا من أجل الحصول على هذا الحق.

وهكذا فأنّى التَفتْنا في حقول الفكر المجرّد أو على أرض الواقع، وجَدنا حواراتٍ ونقاشاتٍ لا تنتهي حول الحدود، إمّا لرسمها أو لمَحوها. ولا سبيلَ إلى تقريب الشقّة بين طرَفَيْ المفارقة، لأنَّ الموقفَيْن متعارضان تمامًا: فالمُؤيّدون يرون في الحدود حصنًا حصينًا، يحفظ الهُويّة ويَحميها من غوائل الخارج التي تهدّدها فتضَيّع خصوصياتِها. ويعتبرها المعارضون، في المقابل، خنقًا لفضاء الحريّة الفسيح وتضييقًا لمَيادينها الرحبة. إلا أنَّ طبع الإنسان، بما هو إنسان، إنما هو التوق إلى الانعتاق، لا الانكفاء في سجون الانغلاق.

إلا أنَّ الجانبَين لم يتساءلا عن حقيقة "الحدّ" ولا استقصيا ماهيته، بل انطلق كلاهما من هذا المبدأ مدافعين ومعارضين، كما لو كان بديهةً من البداهات، والمسألة بخلاف ذلك. فالإنسان المُعاصر يعيش تناقضًا حادًّا بين تَوقِه المفرط إلى تَجاوز الحدود ورفعها، حتى يسير في الآفاق بلا قيدٍ، وبين رغبته في وضع ضوابط رسميّة حفاظًا على ذاته ومحيطه. وبَين طَرَفَيْ هذه المعادلة الصعبة، يَتَحرَّك الوعي ويَنشط الخيال فتُصاغ الأيديولوجيات وتحبك الروايات.

معنى الحدود

ولمتابعة تمثُّلات هذه المفارقة في الأدب والدّين والفلسفة، عاد الكاتبان إلى العصر القديم والوسيط، حيث طغت مسارات تنصير أوروبا وتأكّدت معها حدود "الخطيئة"، التي عملت كحاجز روحيّ، ثم تطوّر مفهومها وتكثّف إلى أن انقلبَ إلى ضدّه، فباتَت طبيعة "الحد" الجوهرية أن يكون منتهَكًا و"ما وُضعت الحدود إلا لتُتَجاوَز وتُخترق". وكذلك كان الشأن إبّان النهضة الأوروبية، حيث ساد مفهوم التقدّم، والذي تأثّر به مفكّرو النهضة العربية، فصار ديَدَنُ الحضارة الغربية هو تحطيم كل العراقيل من أجل المضيّ قُدمًا في التوسّع والتضخّم، نفيًا لكل ما يحول بين المرء وتحقيقه للتطوّر اللامتناهي، حتى أنّه توهَّم أنَّ بالإمكان قَهرُ الموت. لكن مَتى يتوقّف الإنسان عن غوايته ويدرك أنّه لا محالة محدودٌ في وجوده بحتمية الموت؟ يتساءل الكاتبان في الخاتمة.

على الصعيد المنهجي، أعرض المؤلّفان عن المقاربة الخَطّية التي تتعقّب التطوّرات التي طَرأت على مفهوم الحدّ، كما تجنّبا الرؤية الضدّية الثنائية (الحد مقابل تجاوزه واختراقه)، واقترحا عوضًا عن ذلك مقاربة تستعرض تلوينات مثل: "الحدّ يفرّق ويُوحِّد"، أي: عناوين تَختزل ما شهده المفهوم، عبر التاريخ، من مدلولاتٍ وقطائع. 

لا ينتهي الجدل حول الحدود، إمّا لرسمها أو لمَحوها

ولا أظنّ أنَّ منطقةً، في العالم بأسره، تطاولها إشكالية الحدود وتَهمّها بل وتؤرّقها، مثل منطقة العالَم العربي، الذي قام أصلاً على فكرة حدود افتراضيّة رَسمها الاستعمار جزئيًّا، وأبَّدَتها نزعات الانفصال والخصوصيات القُطريّة وخطابات "السيادة الوطنية"، بعد أن كان قائمًا على فكرة "الأمة الإسلامية" التي لا تُقرّ، ضمنًا وصراحة، بالحدود الجغرافية، باعتبار تعالي الأمّة الإيمانيّة على كل قيدٍ مكانيّ. وما تزال حروب الأمّة وصراعاتها ضد الاستعمار الغربي، وضد "إسرائيل"، وحتى ضد الحركات الإرهابية مؤخّرًا، صرَاع حدودٍ، يَعترف بها تارةً ويعمل على تذويبها تارةً أُخرى. ولذلك، فقراءة الرهانات الجيوسياسية في تاريخ منطقتنا وجغرافيتها، من خلال هذا الكتاب، كفيلة أن تهدي لنا مفاتيح جديدة للفهم والتعقل، وهما في الآفاق لا غاية لهما ولا انتهاء.

وأمّا الكاتبان، فهما: روجيه بول دروا، من مواليد سنة 1949 بباريس، وهو باحث في تاريخ الأفكار وصحافي فرنسي، يشتغل في "المركز الوطني للبحث العلمي"، وقد ألّف ما يقرب من الثلاثين كتابًا حول تاريخ المفاهيم، وتُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات، ومونيك عطلان، وهي صحافيّة تعمل بقناة فرنسا الثانية، وقد تخصّصت في الصّحافة الثقافية، وسبق لها أن عملت مع دروا، حيث شاركته في تأليف كتاب "هذه الثورات التي غَيّرت حيواتِنا" (2012)، إلى جانب كتب ومقالات فرديّة أُخرى.
 

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون