في الرابع والعشرين من شباط/ فبراير 1956، رحل الشاعر السوري محمد زهير ميرزا وهو لم يبلغ الرابعة والثلاثين من عمره بعد، إثر سقوط طائرة مدنيّة أقلعت من مطار حلب متوجّهة إلى دمشق، تاركاً ديواناً يتيماً بعنوان "كافر، وحي شيطان مريد"، ودراسة حول إيليا أبو ماضي وأخرى حول الفضيلة العربية.
حياةٌ قصيرة لكنْ متعدّدة في تطلّعاتها، عاشها صاحبها بين التدريس وكتابة القصيدة والمسرح الشعري والترجمات والنقد، حيث ترك العديد من المخطوطات والنصوص والمقالات الموزّعة على صفحات المجلات، إلى جانب شغفه بالرسم والتأليف الموسيقي والخط العربي.
كتابٌ جديد يضمّ أعمال ميرزا الشعرية والنثرية التي جمعها ابنا الشاعر محمد قيصرون ومجدولين، صدر حديثاً عن "العائدون للنشر والتوزيع" بتقديم الشاعر السوري عبد القادر الحصني، وتوزّعت الأعمال على ستّة فصول اشتملت على ما كتبه في الغزل، وفي الوصف، والقصائد ذات الاتّجاه القومي العروبي، والوجدانيات، وقصائد متفرّقة، إضافة إلى حوارات ومشاهد مسرحية.
حياة قصيرة عاشها بين كتابة القصيدة والمسرح الشعري والترجمات
متأثراً بأبي العلاء المعري وإيليا أبو ماضي وعدد من شعراء النصف الأول من القرن الماضي، من أمثال بشارة الخوري وإلياس أبو شبكة، نشر ميرزا قصائده الأولى في الأربعينيات، بعد محاولات عديدة بدأها خلال تلقّيه تعليمه الأساسي. الشاعر المولود عام 1922، والذي تخرّج من كلية الآداب في "الجامعة السورية" (جامعة دمشق حالياً)، قدّم محاولاته في تجديد عمود الشعر العربي ضمن تيار تبنّى شعراؤه في سورية ولبنان ومصر تعدّد الأصوات داخل القصيدة الواحدة وتنوّع القوافي فيها بما يتناسب مع تعدّد أنساقها، مع هيمنةٍ للسرد المنظوم.
يدوّن ميرزا في مفتتح قصيدة "نشيد الأحبّة": "إذا ما أومأَ الحبُّ/ ونادى مغرمٌ صبُّ/ فكمْ من خافقٍ في الصدر/ يغريه الهوى العذبُ"، ثم ينتقل مباشرة إلى قافية مختلفة قائلاً: "غفا النور بحضنِ الليلْ/ فضجّ بكل صدرٍ ميلْ/ ومِنْ دمعِ الأحبّةِ سيلْ/ وذابت حُمرة الشفقِ/ تَفْديهِ رُؤى الأرقِ/ سيغسِلُ بُردةَ الغَسَقِ/ ومن شفقٍ إلى أرقٍ إلى غسقٍ بكى القلبُ/ كلانا يا حبيب الروح مكلومٌ إذا يصبو".
تحضر الرشاقة في المفردة والتعبير كعنوان أساسي في غزليات ميرزا، وكذلك النسج والغزْل اللذان يظهران في بناء القصيدة وصورها الشعرية، وتجريبه الذي يتّخذ أكثر من شكل، مثل خروجه عن وحدة البيت من شطرين لتصبح مؤلّفة من ثلاثة، مثلما صاغ البيت الأخير من المقطع السابق.
بعض قصائد الكتاب نُشرت في مجلة "اليقظة" التي كانت تصدر عن "دار اليقظة العربية للطباعة والنشر" الدمشقية وكان يرأس تحريرها ميرزا، مثل قصيدة "ذكريات" التي يفتتحها بقوله: "ذكريات عبَث الماضي بها حتى طواها/ ورآني في بقاياها سأحيا فجفاها/ من دمي روّيتها! حتى إذا جئتُ أراها/ عصف الحاضر بي، ثم احتواني واحتواها!".
تحمل معظم النصوص تواريخ محدّدة باليوم وأحياناً بالساعة، وكذلك مكانَ كتابتها، وتعكس سعة اطّلاع صاحبها الذي عمل في الإذاعة السورية، وتضمينها رؤى فلسفية تعبّر عن الحيرة والقلق الوجودي وصراع العقل والجسد، بالتوازي مع حالاته الوجدانية من ألمٍ وحزن وفقْد ويأس وأمل مثل العديد من مجايليه.
ويتضمّن الفصل الأخير من الكتاب عدداً من حوارياته المسرحية التي بناها بين شخصيات أسطورية اقتبس بعضها من الميثولوجيا الإغريقية، ومنها مسرحية بعنوان "مصرع المثّال" كتبها في ثلاثة فصول عام 1942 وأهداها إلى توفيق الحكيم بعد تأثره بمسرحيته "بيغماليون" التي تستدعي صراع الفنان مع الحياة، إلى جانب حواريات أخرى تحوي جدالاً مع الشيطان ونقاشات حول العائلة والزواج والوطن وغيرها من القضايا.