قبل أكثر من عشر سنين، عرفتُ سارة ريغز بالتليفون. كانت، أيّامَها، تهتف لي من باريس لتقدّم بعض الملاحظات حول أشعار إيتيل عدنان التي كنتُ منهمكاً في ترجمتها. كان صوتها يأتيني في التليفون رقيقاً حازماً، وهي بحماسها المتدفّق وتوقّدها كما لو كانت تُنجز عملاً يخصّها. وبعد سنين من الصمت والغياب، يجيء صوتُها مرّةً أخرى بالتليفون، ولكنْ هذه المرة من نيويورك، لتُعلِمني أنّ أشعار تلك السنة نُقلت إلى الإنكليزية ونالت جائزة عالمية (جائزة غريفن للشعر).
ولكن من هي سارة ريغز؟ إنّها شاعرة تتخطّى الجغرافيات مادياً وروحياً. وهي كذلك فنّانة تشكيلية وسينمائية ومترجمة. نبتَتْ في نيويورك، في قلب مانهاتن. عاشت في طنجة وفي باريس، وهناك كانت لها لقاءاتٌ وحوارات مع إيتيل عدنان. ترجمت إلى الإنكليزية قصائد مختارة لثماني شاعرات مما بعد الحداثة الفرنسية، أذكر من بينهنّ ماري بوريل، وإيزابيل غارون، وريوكو سيكوغوشي.
ولأنّها اختارت ما تسمّيه التبادل المزدوج مع الآخر، نراها تعيش باستمرار على التخوم؛ تعيش في مناطق التماس، تماس الثقافات واللغات والجغرافيات. سارة ليست من هنا أو من هناك. هي هنا وهناك في آن. وهي، حيث ما تذهب، تعيد صياغة المكان شعرياً وتشكيلياً ومرئياً، بما أنّ المكان ليس سوى تمثّلنا له.
رسائل تمسك بتفاصيل اليومي العابر وتبثّه في الشعر
قصائدها قصيرة مختزلة؛ لها شكل الهايكو ولكنّها ليست بالهايكو. هي رسائل يومية تُمسك بتفاصيل اليومي العابر وتثبّته في الشعر. لغتها لغة الشعر الحديث، وبلاغتها بلاغته التي انفصلت عن لغة القاموس ولغة الوعي. صارت الكلمة معبّرةً بقوّة عن لغة الطاقة الصادرة عن الإنسان؛ معبّرة عن عالم الحدس والحلم واللاوعي. لم يعد النص الشعري مقنعاً بمضمونه الفكري، وبرسائله التجريدية، وإنما بقوّة إقناعه الغامضة والحقيقية في آن. كما لو أنّ القصيدة تنويعٌ على الحلم، فهو حقيقي ولكنّه غير موجود.
لسارة ريغز سبعة كتب شعرية بالإنكليزية والفرنسية، من بينها كتاب تنظيري عن الشعر والإعلام المرئي. حصلتْ على عدة جوائز شعرية، آخرها الجائزة الكندية "جائزة غريفن للشعر" (2020) عن ترجمتها ديوان إيتيل عدنان "زمَن" (Time) الصادر في نيويورك عن دار "نايت بوت"، وهو متشكّل من أربع كرّاسات شعرية كانت قد صدرت في طبعتها الأصلية عن دار "التوباد" في تونس. تدير سارة "تماس" (Tamaas)، وهي جمعية فنون متعدّدة الثقافات.
إضافة إلى أشعارها، أصدرت كتابين فنّيّين بالاشتراك مع إيتيل عدنان ومع الفنانة الفرنسية آن سلاسيك. أنجزتْ شريطاً في طنجة، عُرض في مهرجان برلين السينمائي. وقدّمت دروساً في "معهد برات" في بروكلين وفي برامج جامعتي نيويورك وكولومبيا في باريس.
هنا شذرات مختارة من مجموعاتها "28 تيليغرام"، و"60 رسالة هاتفية"، و"43 ورقة لاصقة".
3
أقرأ الصحافة اليوم أيضاً
والأخبار سيّئة كما هي
من قبل. أم هي فقط الطريقة
التي تسقط بها الأخبار علينا
منكفئةً على نفسها مثل
تيّارات المحيط الأطلسي؟
8
العالم ليس الجريدة
على الرغم من وجود الكثير
من الخلط حول هذا الموضوع في الآونة الأخيرة.
9
الجُمَل تستمر بالانبثاق
والانحناء إلى الخارج
من جميع النواحي. لا جدوى من القيام
بأيّ شيءٍ نحو ما تقوله
ما عدا مُشاهدتها وهي تلفّ، وهذا
ما أفعله في الأيّام الممطرة.
10
كنّا نتمنّى بشائرَ لحظةِ
تكسّر البسكويت
كنّا نستطيع بِقُصاصات الورق الصغيرة
أن نسوّي أشياء كثيرة – ولكنْ ماذا؟
في تجويف البسكويت
كانَ هناك مستقبلنا، كان هواء نحن
لن نلصقه بأيّ دفتر.
17
ماءُ الشاي يغلي
منذ وقت، في الواقع
تبخّر بالكامل. يتحتّم عليّ
عدم مشاهدة الكثير من أفلام أوزو
وأنْ أنسى الفيلم الذي أنا هو.
21
كثيراً ما يُفاجأ الناس بخياراتي
القديمة، كاختياري للزوج،
ولأسلوب الحياة، بيدَ أنّي لا أعيش هذا كخيار
بقدر ما هو طريقةٌ لإدراك
كيف تنفتح أبوابٌ بعد محاولات
كثيرة. أحسّ بيدي على المقبض.
22
الكلمات لن تنفصل أبداً
عن النظام وعن القواعد النحويّة،
وأنا لا يمكنني أبداً دخولُ أفريقيا بدون
أمتعة بحجم قارّتين،
أو عشرة قرون. نحن أحرارٌ
ما دُمنا نرى الحدود.
23
BHV هو سانتا كلاوس هذا العام، سمعتُ ذلك
بصوت عال وواضح في الأبواق.
اليوم، من الممكن أن أكون سعيدة
وغير مضطرة إلى أن أشرح هذا لطفلٍ في سنّ الرابعة،
ومع ذلك مستعدّة لأن أخضع للأسوأ
لأرى يداً صغيرة في يدي.
28
مِزاج الحبر
جعلَها متوقّدة ومتحمّسة،
لا حدود لها، ريفيّة، حملتْ
كلّ ما استطاعت حمله حتّى أعود إلى هنا
معك.
(من ديوان "28 تيليغرام")
2
أحياناً، يفاجئني المطر تحت
الدوش، ويحزنني الجفاف.
6
هل سأضطرّ لدفن رمادك
مع الآخرين؟
لو استطعنا تسمية مخاوفنا
فهل ستذوب مثل السكّر
أو الملح؟
7
هذه الساعات من المحادثة كانت
كانت ساحرةً للغاية
أريد أن أصنع السلام مع جدران
أوروبا لأتعلّم كيف أنّ
مدخل قارّتي
محشوٌّ بالرصاص.
11
لم أدرك لأيّ مدى
طاقاتُنا محدودة.
بذلتُ الكثير منها في الأفراح
والأحزان. بيد أنّ الكتابة لك تهدّئني.
14
ربما لن تتقاطع هذه الطرق
أبداً. حتّى ولو كان هناك قطارٌ
مباشر إلى اليمن، لن أعرف المحطة
إلّا بعد غيابك.
24
في ضوء الشفق يعتذر الخطّاف
للغيوم اذ يغطس تحتها
وإلّا ماذا تفعل هناك في السماء؟
35
في لبنان لا ندري
أين هي الأجساد.
تبدو أشباحاً
في زحمة المرور.
42
نمتصّ الشمس بتريّث. الأفكار تأتي
مع هبوب النسيم. ونحن لن ننسى
أن نترك النوافذ مواربةً.
(من ديوان "43 ورقة لاصقة")
1
أين ستمضي هذه الأسطر
إنْ أرسلتُها إليك؟
أستطيع إرسالها
بين أضلعك.
2
عندما ينسحب الفن
بإرادته من النافذة
يطير، يطير
بهدوءٍ مصطحباً رسالةً
أرسلتها إليّ الأمطار.
7
كثيراً ما أتساءل:
هل أنا لا مرئيّة؟
قال فرانك:
أنظري صوبي مباشرة
أؤكدّ لك أنّك لست لا مرئيّة.
13
إذن، هذا ما عزمنا عليه
أمام هذه الأريكة.
سأذكر دائماً
هيئتك في تلك اللحظة
وما نفتقده من قواسم مشتركة
سنخلقه.
17
آخر كارثة
في رصيدها الخاص.
هل نحن منذورون
لأن نكرّر أنفسنا؟
أين يمكن لنا
اقتراف أخطاء جديدة
في كل مرة؟
23
أتخلّف في طنجة
عن المحاضرات
لأتفرّج على مرور البواخر
وعلى كرة القدم في الشاطئ.
ألستُ مقصّرةً
مع العالم الذي أريد كتابته؟
31
أحياناً، ولأتأكّد
من الغرفة التي أنا بها،
أجلس لأكتب إليك.
(من ديوان "60 رسالة هاتفية")