في التّداول الإعلاميّ والسياسيّ الأوروبيّ الرّاهن، باتت كلمةُ "فتوى" تدلّ على إطلاق حُكمٍ بالإعدام، يُصدِره عُلماء الدّين ضدّ أحد المُعتَدين، ولاسيما في قضايا ازدراء المقدّس. ويَجعل هذا التداول الشائع من كلمة فتوى مفهومًا مرعبًا، فضلاً عن كونه خاطئًا.
ولِدَحض العموميّة والخطأ، أنجز الباحث الفرنسي، ستيفان فالتير (1960)، المتخصّص في حقل الإسلاميّات، بحثًا كاملاً عن العلاقات المنعقدة بين الفتوى وأبعادها السياسيّة، وخصوصًا ضمن تجليّات الإسلام المُعاصر، حيث تقع الفتاوى، سواء الرسميّة الصّادرة عن الدول والمؤسّسات الدينية التي ترعاها أو الفرديّة التي يرسلها أئمةٌ منعزلون، في مفترق الطرق بين هيمنة الدّين وتلاعب الإيديولوجيات. وذلك في كتابٍ صَدر، منذ أيامٍ، عن "المركز الوطني للأبحاث العلميّة" بباريس.
وقد أسند الباحث لمُؤلفه عنوانًا صريحًا: "الفَتاوى والسّياسة" بغرض تحليل العلاقات القائمة بينهما. ولذلك وطّأ لِكتابه بِمقدّمة عامّة، تساءَل فيها عن الطبيعة العميقة للإسلام: أهو ديانةٌ، مَحلّها الضمير؟ أم هو ثقافة، بالمَعنى السوسيولوجي للكلمة، تُؤثّر في حياة الناس وأنماط عيشهم؟ أم هو إيديولوجيا سياسيّة، تستغلّها أطراف الصراع من أجل النفوذ والتّحكّم؟ طَرحَ الكاتبُ السؤالَ مع اقتناعه بأنّ الحدودَ بَين هذه المناطق شديدة التداخل.
خصّص، بعد ذلكَ، القسمَ الأول لدراسة حضور الفتوى بين التاريخ والدين والثقافة والمجتمع، حيث عاد إلى الجُذور القرآنية للمصطلح وأبان عن تعقيداته في هذا النص التأسيسي وغرابَة الانتقال من معنى الفَتاء والشّبيبة إلى معنى: "الرأي الفقهيّ الواضح حول واقعة حال"، والعلاقة بينهما الوضوحُ والمتانة. ثم تطرّق إلى علاقة الفتوى بالعدالة والنظام وأصنافها والأسس التي قام عليها التصنيف. وتناول نموذج "الأزهر" وتحوّلاته العميقة من كونه مؤسّسة شيعيّة إلى اعتباره أكبر مركزٍ للإفتاء السنّي، ولاسيما بُعيد ثورات 2011، حيث عاش مراحلَ مدّ وجزر مع السلطات السياسيّة المتعاقبة.
تقع الفتوى في مفترق الطرق بين الدّين والإيديولوجيات
وأما القسم الثاني فقد خَصّصه فالتير إلى تأثير "المذهب الوهّابي"، ذي النزعة النصيّة المحافظة، على إنتاج الفتاوى ونشرها. عاد إلى الجذور الحنبليّة لهذه المَدرَسَة وما تُمارسه السّلطات السعوديّة، الدينيّة والقضائيّة، من نفوذٍ رمزيّ، عبر إصدارها هذا العَدد الضخم من الفتاوى. وقد درس بالتفصيل تلك التي صَدرت أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006، ثم عرّج على علاقة هذه الفتاوى بالإرهاب.
وأما القسم الثالث والأخير فقد خصّصه الباحث لدراسة مكانة الفتوى في المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة، ولدى الجماعات-الأقليّات التي تعيش في أوروبّا، من خلال دراسة الفتاوى الصادرة حول "الحرب السوريّة" وتلك التي تخصّ قضيّة خَفض البنات، والتي أثارت جدلاً واسعًا في مصر، وأخيرًا تلك المتعلقة بكُرَة القدم، هذا النّشاط الواقع بَين فَكّيْ الإعجاب الشعبيّ والرفض الفقهيّ في بعض نصوصه المتزمّتة.
وقد ختم فالتير دراسَته بخلاصةٍ حول بيان علاقة الفتوى بالسياسيّ، وتعرّض، بإيجازٍ، إلى الآراء الشاذّة وإلى الميول الإصلاحيّة الساعية إلى الحدّ من نفوذ الفاعلين الدينيين أمام القوى العِلمانية، مذكّرًا أنّه ليس بالإمكان دراسة الكمّ الضخم من الفتاوى، ولاسيما في المجال الحميمي (شعائر الطّهارة والصّلاة والصّوم) والتي لا تتّصل، في الظّاهر، بالدولة والعمل السياسي.
على الصعيد المنهجي، يؤكّد الباحث أنَّ كتابَه هذا لا يَدّعي دراسة ظاهرة الفتوى منذ انبثاقها إلى يوم الناس هذا، وفي مختلف الأقطار التي فيها ظهرت، لأنّ عملاً مثل هذا يتطلّب فريقًا متخصّصًا وإلمامًا موسوعيًّا بالمسائل. ولكنّه يجهدُ في تحقيق هدفٍ نظريّ وأساسيّ وهو التفكير المعمق في طَبيعة الإسلام: هل هو مجرّد ديانة، لها شعائر وعقائد تُعاش في ثنايا الضمير وداخل الدائرة الخاصة؟ أم هو رؤية للعالم ونظرية دينيّة له، ترافقها ممارسات ثقافيّة قد تصل إلى مستوى الإيديولوجيا السياسيّة؟ ويهدفُ هذا السؤال المركزي إلى فهم العلاقات التي تنعقد بين مجرّد رأي فقهي، (أي: الفتوى في معناها اللغوي والاصطلاحي الأصليّ قبل أن تتوسع دلالاتُه)، وبين الاختيارات السياسيّة ولاسيما حين تتحول الفتوى إلى خيار سياسيٍّ يُفرضُ على الناس اتّباعه.
استكشافٌ لجملة التحوّلات التي طرأت على الشريعة
وأما الهدف الثاني الذي حرّك هذا البحث فهو استكشاف الأسباب الداعية إلى نقل الإسلام من حظيرة الديانة الشعائرية إلى مجال التصارع الإيديولوجي والسّياسيّ، حيث باتَ أداةً لخدمة المصالح الدنيوية للفئة الحاكمة تستغلّه لمآربها. وهو سؤال ينطلق من ملاحظة أنَّ السلطة، في عالمنا العربي، تحتكر المقدَّسَ وتوظّف عَناصره إما مباشرة أو عن طريق جهاز الإفتاء الذي أصبح مجرّد أداةٍ تخدم مصالح ذلك النفوذ، خصوصًا في العصر الحديث الذي تضخّم فيه دورُ الإسلام السياسيّ وبات أكثر حضورًا وتأثيرًا.
وقد بيّن الباحث الفرنسي الدور الكبير الذي لعبته الفتاوى في دمج الإسلام في حركة العولمة وهو ما يَخدم التوسّعَ الجغرافيّ لهذا الدّين ويرفعه فوق الحدود. إذ لم يبق، كما كان طيلة القرون الماضية، مقترنًا ببلد محددٍ، وهذا ما يؤكد اجتياح المقدس للدائرة المحليّة والعالميّة، وهو الذي بات يحكم، ولو صوريًّا ورمزيًّا، ما يأتيه الناس.
ومقابل ذلك، حاول الباحث استكشافَ مدى حضور قيمة العقلانية في التّطورات التي عرفتها الشريعة الإسلامية على امتداد تاريخها ولاسيما في الفترة المعاصرة، فأبان عن فروق جذريّة بين العقلانيّة، كما تَصوَّرها فلاسفة الغرب كأساسٍ لبناء الإنسان وسيطرته على الطبيعة، وبينها كما رآها مفكرو الإسلام، مثل محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، حيثُ ظلّ العقلُ، عندهما، تابعًا للوحي، لا يُناقضه، بل يُجاريه.
وهكذا، تُجَسّد مثل هذه الدراسات المنهج الاستعرابي الراهن، في دراسة الظواهر الاجتماعية المتصلة بالإسلام، وفيها جَمع الباحث الفرنسي بين توظيف مقولات العلوم الإنسانيّة وتحليل الخطاب إلى جانب الاستعانة بالمعارف التي تهم حقول الإسلاميات التقليديّة Islamologie من تفسير وفقهٍ وتاريخ وأصول.
ولا شكَّ أنَّ هذه المقاربة هي الأقرب إلى فَهم هذه الظواهر المعقّدة واستقراء أبعادها بفضل التّوظيف الذكي للمقاربات، كما أنها، أي: الفتوى، تَنساق إليها دونما تعَسّف. وعليه، نرى أنَّ الكاتب وُفّق في تحليل أبعادها والتزمَ بـ"العقد" الذي أعْلنه وهو النفاذ إلى الجوهر السياسيّ للفتوى باعتبارها أداة إمّا للتشريع للنظام القائم وتسويغ أعْماله، وإما لِضَرب شَرعيّته، في سبيل تَنصيب سلطة أخرى تقوم على أنقاضه، فهي إذن جزءٌ من أدوات الصراع التي توظّفها الجهات المتقابلة في ساحات الفعل الاجتماعي، مما يؤكد أنّ "المسلم" المعاصر من متابعي الفتوى، قد ينقلب إلى مجرّد مستهلك لآراء بشريّة، يُضفى عليها طابع القداسة، وليست منه في شَيء.
هذا البحث استكشافٌ لجملة التحوّلات التي طرأت على الفتوى من اعتبارها رأيًا يتورّع عنه كبارُ الصّالحين ويَتهرّبون منه، إلى اعتبارها نتاجًا يكاد يكون استهلاكيًّا، يَهرع إليه المؤمن المعاصر ويُقبل عليه بشغفٍ، أحيانًا مبالغٍ فيه. أليس من الأجدى اعتمادُ قاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة"؟
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس