استمع إلى الملخص
- **تجربة خوّام الشخصية والفنية**: تأثرت بدايات خوّام بقراءة الروايات والفلسفة، ومحاولته الفاشلة للانتحار. بعد فقدان قدمه، استكشف عالم الرسم ووجد في الألوان الزيتية شغفه بالفن، كما نشر مجموعة شعرية.
- **مغامرات جديدة وتطلعات مستقبلية**: يرى خوّام في "الرجل العصفور" انعكاساً لحالاته النفسية، ويعتبر اللوحة مرآة لمشاعره. بعد اغتيال لقمان سليم، بدأ في تجربة ألوان جديدة، مما أضفى حيوية على أعماله.
لم يتخلَّ الفنّان التشكيلي سمعان خوّام على مدى عشرين عاماً عن الرّجل العصفور. في خضمِّ تحوّلات اللوحة، التي باتت تُعرف كلوحة أصيلة تشير إلى صاحبها، وصولاً إلى أعماله الأخيرة التي ترتدي ثوب "الفنّ الساذج"، بقيَ الفنّان مُحافظاً على وعيه بالمادّة التي يريد الوصول إليها. لوحات يُحمّلها تقلُّباته وهمومه الحياتيّة التي تُطالعنا من معرض إلى آخر، حيث نرى الألوان التي لم نعتَد وجودها في تفاصيل التجربة السّابقة. لكنَّ اللون يبقى لدى خوّام مجرّد وسيلة. فالأساس في لوحته هو الهمّ الذي تحمله.
لو أردنا أن نفتِّش عن عناصر لوحة الفنّان السوري اللبناني، أو حاولنا تشكيل حقل معجمي بياني لهذه العناصر لطالعتنا هذه الكلمات: القناع، الوجه، السُّكون، الحِيَل والالتفافات السوداء، وأشياء أُخرى كلّها تجعل من لوحة خوّام لوحة معاصرة أشبه ببصمة أو وشم مَدارُه الشخوص والألوان ومحاولات الفنّان الواعية لتبسيط اللوحة. لا ندري إذا كانت كلمة "تبسيط" صحيحة. كأنّ خوّام يردُّنا بهذه الأعمال الأخيرة التي نشاهدها إلى الأشكال الأُولى والألوان الخامّ التي تصنع لوحته وتحوّل العنف إلى عفويَّة، والقساوة والاحتجاج إلى مادّة شخصيّة أكثر أصالة.
الرجل العصفور "إيغو" آخر ألجأ إليه حين أهربُ من نفسي
تلتقي "العربي الجديد" بخوّام وتُحادثه في محاولة لتفكيك الأعمال وربطها بالواقع. كما نبتعد معه لنعود إلى الطفولة في سوريّة ومحاولة الانتحار الفاشلة هرباً من التجنيد في جيش النظام، وعن محاولاته الفنّية التي جمع من خلالها التبرّعات لصناديق الدعم الذاهبة إلى غزة، لإسكات ضميره وعجزه أمام مجازر التدمير والإبادة.
أطفال غزة
يبدأ خوّام حديثه إلى "العربي الجديد" بعين القلب، متناولاً الراهن وما يجري في غزة من إبادة وتطهير عِرقي: "علمتُ بما جرى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وفرحتُ بالأمر، ثمّ ما لبثت الفرحة أن انتهت أمام مشاهد الدمار والهمجيّة الصهيونيّة، أمام حجم ردَّة الفعل، والخراب الحاصل في غزة. شيءٌ من الشَّلل أصابني أمام كلّ ما نراه، فكَّرتُ أن أضرب رأسي بالحائط وقرّرتُ أنّه لا بُدَّ لي مِن فعل شيء. حاولتُ أن أتخلَّص من شعوري بالذَّنب والتقصير والعجز عبر رسم لوحات ذات صلة بما يحدث، رغم أنني لا أعرف كيف أفعل ذلك، أضعفُ الإيمان أن نرسم، فقط لكي نغسل أيدينا ولكي ننام شبه مرتاحين من هول ما يجري".
ويضيف: "بعد مرور شهر على المجزرة قرّرتُ أن أُقيم حملة لجمع الأموال وإرسالها إلى أهلنا هناك. عملتُ على أشياء خاصة مرتبطة نوعاً ما بالعدوان على غزة لكن المشاهدين والناس لمْ يحبُّوها وفضَّلوا العودة إلى أعمالي السابقة واشتروا منها وهذا ما أُريده بالتحديد جَمْع الأموال وإرسالها إلى أهلنا في غزة".
حديث البدايات
عن بداياته وتشكّل وعيه الفنّي يقول خوّام: "الفنّ كرسم، الفنّ التشكيلي كنحت، لم يكن موجوداً عندي في صغري أكثر ممّا كانت القراءة، القراءة على أنواعها. وبصراحة كانت اهتماماتي محصورة في مجال العلوم أكثر من أي مجال آخر. كنتُ أقرأ طبعاً الروايات والفلسفة منذ بدايات تشكُّل وعيي وصولاً إلى الفترة التي تلَت الحادث المُفتعَل، ليس واضحاً بالنسبة لي أين بدأت القصة بالتحديد".
يُكمل صاحب "دليل المهرّج" حديثه: "كان عمري آنذاك ثمانية عشَر عاماً، حصل ذلك قبل أسبوع من موعد عودتي إلى سورية لتأدية الخدمة الإجباريّة، قرّرت حينها أنه يجب أن أمشي في حقل ألغام، لا حلَّ أمامي سوى الموت أو العطب الدائم الذي سيَقيني شرّ الخدمة الإلزاميَّة. وهذا بالضبط ما حدث. كان من المستحيل أن أعود إلى سورية. دخلتُ حقل ألغام في منطقة محاذية لبلدة بعبدات في المتن وخسرتُ قدمي منذ ذلك الحين، ولكنّني في المقابل تخلّصتُ من الخدمة الإلزامية والعودة".
في الرسم أعودُ ذلك الولد وأترك للكتابة الجانب العنيف منّي
ويضيف خوّام: "بعد سنة من تلك الحادثة، وبعد خمس عمليات في القدَم قبل أن نرسو على الرِّجل الخشبية، وفي تلك الزيارة العائلية تفتَّحت عيناي على اللون، كنّا بزيارة إلى بيت لا أذكر تفاصيله الآن. هناك ابنة في هذا المنزل تدرس التَّصميم والغرافيك. أذكر جيداً أنَّ ما علق في رأسي منذ تلك اللحظة هي رائحة الألوان الزيتية. في تلك اللحظة وُلدَت الفكرة. تطلَّبَ الأمر بعد ذلك سنة من الأبحاث ومحاولة معرفة التفاصيل والأشياء في هذا العالَم. بدأتُ الرَّسم ولم أكُن أعرف ماذا أفعل. استغرق الأمر أربع إلى خمس سنوات من التجارب وحدي، لا أنفي أنني في تلك المرحلة قدّمتُ عروضاً بسيطة في فرنسا وألمانيا تعرّفتُ من خلالها إلى الفنّ أكثر".
وبالانتقال إلى تجربته الشعريّة، يقول الفنّان السوري اللبناني لـ"العربي الجديد": "خلال هذه المرحلة لم تتوقّف رحلتي مع الكتابة. أنا أكتب بشكل يومي، الكتابة شيء طقوسي بالنسبة لي. كنتُ قد نشرتُ مجموعتي الأولى 'مملكة الصراصير' ولم أنقطع أبداً عن الشعر. صحيح أنني في أزمة دائمة مع الكتابة، وفي رحلة سؤال دائم عن القيمة والأثر ولكني بقيتُ أكتب".
ويكمل خوّام حديثه عن الشعر: "الرسم أعطاني حرّية أكبر، أعطاني الهامش بأن أختفي وراء اللوحة، وأن أضع قصَّة واحدة وأشتغل عليها. من هنا خرج 'الرجل العصفور'، الكائن الذي حمَّلتُه كلّ ما أريده. لقد حمَّلت اللوحة كلّ ما أريد قوله، من دون أن أقول شيئاً. في الشعر أجد نفسي قاسياً، بينما في اللوحة أنا أقلّ حدَّة وقسوة، ربما في اللوحة الأشياء تأتي مهذّبة أكثر. وهذا الذي صنع التوازن عندي. أنا في مرحلة الرسم أفكِّك لوحتي أكثر لأنني أريد منها الرمزية ولو شئتَ التبسيط. في الرسم أعودُ ذلك الولد الذي يرسم، وأترك للكتابة الجانب العنيف منّي. طبعاً ليس بالضرورة أن أنشر ما أكتبه المهمّ عندي هو خلق لعبة التوازن. هناك حريّة أكثر في الرسم، لديَّ الكثير من الأدوات لأقول وأعبِّر والأهمّ لكي لا أكون مفضوحاً كما هو حالي في الشعر".
مغامرة جديدة
وفي معرض كلام الفنّان عن تجربته الجديدة التي بدأت تتبلور ملامحها، يقول: "ببساطة هذا الطائر هو أنا وحالاتي النفسية. اللوحة هي مرآتي، أشتغل على ما أحسُّه. في اللوحة هناك الحرب والثورات والميلانخوليا الشخصيّة وأشياء أُخرى عديدة. لمدّة طويلة كانت لوحتي حزينة وتخبر أخبارها بهدوء وانسحاب. اللحظة الفاصلة بالنسبة لي كانت هي لحظة الانفجار واغتيال لقمان سليم في شباط/ فبراير 2021. كنتُ حينها قد اشتغلتُ على لوحتين وبدأت التفكير باللوحة التي فيها لون. بعد ذلك غادرتُ إلى لندن، ارتحتُ قليلاً وبدأت المحاولات. عملتُ على تجربة طويلة ومحاولات كثيرة بدأت تظهر نتائجها الآن. هل لا تزال الأشياء ذاتها؟ مُمكن، ولكنّها ملونة. ما أريد قوله إن كلامك عن الطائر صحيح ولكنه طائر في أساسه وهَمّه محاولة تبسيط الأشياء والابتعاد عن الزخرفة. كي لا أقع في فن الرسم. أريدُ أن أكون فناناً وليس رسَّاماً وهذا الطائر هو جزء من هذه الرّحلة. نعم الطائر لئيم، لقد حمَّلتهُ كل ما لم أعد قادراً على حَمله وإنجازه، ربّما لأنني تعبت. غدا هو كلّ شيء، صار العين التي تُراقب وحارس المكان".
ويضيف خوّام: "الرجل العصفور هو 'إيغو' آخر، حين أهربُ من نفسي ألجأ إليه. كلّ ما أَعرفه أُحمِّله إيّاه قديماً كان أم جديداً. وبرأيي فإنّ الموضوعات والأشياء الجديدة يجب عليها أن تحترم مكانة الأشياء القديمة وتجد لنفسها محلّاً، لديَّ ألفُ فكرة في رأسي ليست جاهزة الآن، يمكن أن توضَّب، موضوعات اللوحة القديمة لم تنته، ولكن أحاول أن أتخفَّف منها، أفتح المجال للقديم والجديد كي يتناسقا معاً".
كذلك يعرِّج خوّام في حديثه مع "العربي الجديد" على المستقبل قائلاً: "بعد كلّ تجاربي لا أستطيع أن أكون إلّا عدمياً، المستقبل لا أستطيع أن أراه إلّا بعين الحاضر، الاشتغال في الحاضر. أعيش في هذه اللحظة، الأمر نفسه ينطبق على الماضي الذي لا يُمكننا أن نغيّر فيه شيئاً، ولكنّه يُذكّرني أيضاً بما جرى وبَنيتُهُ سابقاً. أضحك على نفسي لو قلتُ لك إنَّ هناك مستقبلاً خارج اللوحة، أعمل في كلّ يوم باعتباره اليوم الأخير، ليست لدي قدرة على شيء سوى العمل والطاقة والقليل من الموسيقى المترافقة مع القراءة، هذا ما أستطيع قوله".
مسألة أُخرى يقدِّمها صاحب "مملكة الصراصير" حول عملية الشغل والتواطؤ بين الفنان والعمل والمُشاهد مفصِّلاً: "الذي سيُشاهد سيُشاهد في كلِّ الأحوال، وفي أيّ شاكلة كان عليها العمل. المُشاهِد ليس موجوداً معي في لحظة تكوين اللوحة، أنا الذي أرى، من هُنا أكون أنا المُشاهِد الأول والأخير لعملي. طريقة مشاهدة اللوحة هي التي تقرّر، اللوحة تنبع من حجم مشاهدتي، كم أنا مراقب؟ هل تراقب القراءة؟ هل تراقب الناس؟ الشارع؟ هل تراقب الهواء والكائنات؟ اللوحة هي نتاج لهذه السلسلة من المُراقبات لأشياء منظَّمة وغير منظّمة". ويُتابع: "أما المشاهد الذي تحدّثني عنه فيأتي دوره في اللحظة التي تخرج فيها اللوحة من عندي لتصبح له، يُحبّ أو لا يُحبّ، هذا محلّ نقاش بيني وبينه. نتناقش، ولكنّ اللوحة كعمل انتهت وبدأت رحلتها".
نهاية الخطابات وبداية التجريب
وعند حديثنا عن إمكانيّة أن يكون هذا الزمن صالحاً للخطاب الفنّي، يُشير خوّام قائلاً: "الخطاب المتعلّق بالفنّ له علاقة دائماً بصاحب الخطاب. فحين يكون لديَّ خطاب تكون لديّ أيضاً نِيّة كامنة خلف هذا الخطاب. هذه النِّيّة قد تكون قضية أُدافع عنها، قد تكون همّاً شخصياً، قد تكون فنّاً من أجل الفنّ، أو ربما هناك أحد في الخلف يُحمِّلك خطاباً لتقوم بإيصاله، مهما كان الخطاب. في مرحلة من المراحل كان صوتي مرتفعاً ولم تكن لديّ حدود، ولم أُساوم. لكن بعد خسارتي لكلّ شيء خفَّفتُ من هذا الهمّ، والمصادفة أنني ارتحتُ شخصياً، وكأنَّ حملاً ثقيلاً نزلَ عن ظهري".
اللوحة نتاج سلسلة من المُراقبات لأشياء منظَّمة وغير منظّمة
ويتابع: "اللوحة كانت جزءاً من هذا الخطاب، والكتابة أيضاً كانت جزءاً، والغرافيتي حمل جزءاً، وعلاقتي بالعالَم كذلك، مرحلة الخطاب شكَّلت حياةً كاملة. يُمكنني أن أقول لك أيضاً إنّ هذه المدينة تعبت والمحيط تعب، هذا لا يعني أنهم غيّروا أفكارهم. العالم ملَّت التنظير، ولم تعد تحتمل. لندن أتاحت لي رؤية الأشياء من بعيد، محاولاتنا نجحت في مكان وفشلت في آخر وهذا يكفي".
ثمَّ يختم حديثه مفصِّلاً جوهر اشتغاله اليوم على الأعمال: "يحلو لي اليوم أن ألعب، أن أعود ولداً. وبعد المراجعة الذاتية التي أجريتها مع نفسي وجدتُ أنّ قصتي موجودة ولا شيء يستطيع تغييرها أو تغييبها. اليوم لديّ القدرة على أن أنجز ما أريده، ولكن هل هذا هو المطلوب ضمن لعبتي التشكيليّة؟ هذا التغيير هو بناء على قرار، قرار بأن أذهب إلى مكان أخفّ وأبسط، وهذا ما أشتغل عليه منذ سنوات أربع. التغيير الذي تراه في الأعمال الأخيرة هو الذي يُبقيني حيّاً".