سوزان باك-مورس.. لماذا صمَت هيغل عن ثورة هايتي؟

23 أكتوبر 2024
يبيّن الكتاب أن تعثُّر الباحثين في ‏فلسفات الحرية الحديثة هو بسبب جهلهم تاريخَ هايتي
+ الخط -

ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت النسخة العربية من كتاب "هيغل وهايتي والتاريخ العالمي" للفيلسوفة والمؤرخة الأميركية سوزان باك-مورس، بترجمة أستاذ الفلسفة والباحث العراقي علي حاكم صالح.

الكتاب ترجمة لأصل إنكليزي صدر عام 2009 ‏للمؤلّفة ‏ضمّنته مقالتَين لها، الأولى في دورية "كريتيكال إنكوايري" ‏الأميركية، والثانية احتوت ردوداً على انتقادات للمقالة الأولى وتوضيحات لمقاصدها، كما وضعت مقدمة للكتاب ومدخلاً توضيحياً قبل كل مقالة.

وكانت باك-مورس قد نشرت مقالة في صيف عام 2000، بعنوان "هيغل وهايتي"، وسرعان ما اعتُبرت حدثاً فكرياً وأثارت ردود فعل مؤيدة ومناهضة في الوقت نفسه؛ إذ ‏قامت المؤلفة بجولة في الفهارس الفنية، والدوريات السياسية، والترجمات من اللغات الأجنبية، ومدوّنات الإنترنت، والصحف ‏العمالية، وقاعات الدرس. وهي وإن استجابت لتشكيلات الزمان والمكان غير المألوفة التي رسمتها، وتناغمت مع ‏كيفية عيش الغربيين حَيَواتهم تناغمًا أكبر منه مع تواريخ ماضية، إلا أنها أثارت جدلاً بالرغم مما ‏نالته من استحسان غير كلّي من نقاد المركزية الأوروبية، وإطراء على الانزياح الذي أحدثته في مركز تراث ‏الحداثة الغربية، كما انتُقدت لاقتراحها إنقاذ المقصد الكوني للحداثة عوضاً عن الدعوة إلى تعدد حداثات مغايرة، فبدا ‏لبعضهم أن اقتراح بعث مشروع التاريخ الكوني من رماد الميتافيزيقا الحديثة تواطؤ مع الإمبريالية الغربية، أو الأميركية ‏على نحو أدق، بحسب بيان "المركز العربي".

تدعو المؤلفة إلى استراتيجية جديدة تتمثل في تعديل شعار ’فكِّرْ كونياً واعملْ محلياً‘

ورداً على هذا النقد، كتبت باك-مورس مقالة ثانية بعنوان "التاريخ العالمي"، سعت فيها إلى تطوير القضايا الخلافية في المقالة ‏الأولى وإلى كتابة التاريخ باعتباره فلسفة سياسية، وجمعت المقالتين في عنونته "هيغل وهايتي والتاريخ العالمي".‎

تدعو المؤلفة إلى استراتيجية جديدة تتمثل في تعديل شعار ‏‎"‎فكِّرْ كونياً واعملْ محلياً‎"‎، وفي معرفة معنى ‏‎"‎التفكير كونيًّا‎"‎، وتقترح طرائق لتطوير هذه الاستراتيجية، منها، على سبيل المثال، ‏تغيير اتجاه بوصلة المعطيات التاريخية الخاصة إلى حيث التاريخ الكوني، والهدف ‏الأخير ليس التشابه من دون اختلاف، ولكن خوض الصراعات السياسية من ‏دون تصورات مسبقة تكبّل الخيال الأخلاقي.‏

وتصرِّح باك-مورس بأن مقالتيها تقعان عند الحد الفاصل بين التاريخ والفلسفة، ‏وتقترحان فهمًا للتاريخ الكوني يتميز من فهم هيغل النسقي للماضي، ومن ‏ادعاء هايدغر الأنطولوجي بأن التاريخانية هي جوهر الكينونة، وتجعلان التاريخَ ‏الكوني تفكّرًا فلسفيًّا متجذرًا في الوجود المادي يسلِّط الضوء على الحاضر ‏السياسي‎.‎

كما تعتبر الكاتبة أن إحدى خلاصات المقالة الثانية في كتابها هي أن مساهمة ‏التاريخ الأميركي في مشروع التاريخ الكوني اليوم بفكرة استغناء المشاركة ‏السياسية الجماعية عن العادة أو الإثنية أو الدين أو العرق، مستمدة من تجربة ‏العبودية في العالم الجديد وليس من الإمبريالية الأميركية، وهي مقالة، برأيها، تحطم ‏الحواجز بين "الفهم المفاهيمي" والخيال الأخلاقي في الحاضر.

يقترح المقالان اللذان يشكلان الكتاب فهماً للتاريخ الكوني يتميز من فهم هيغل النسقي للماضي

في الكتاب مدخلٌ يتتبع سنوات البحث التي قادت إلى مقالة ‏‎"‎هيغل وهايتي‎"‎؛ ما يبيّن ‏أن المؤلفة لم تكن في وارد كتابته، بل كانت في نهاية الحرب الباردة مشغولة بأيديولوجيا النيوليبرالية المهيمنة، ‏وبـ‎ "الاقتصاد‎"‎‏ حين كان موضوعًا لتبجيل صنمي، وبنظريات الاقتصاد السياسي الفكرية المثيرة في ‏أوروبا لدى آدم سميث والتنوير الاسكتلندي، ‏وفي مجادلات الفلاسفة، وخصوصاً كارل ماركس. 

وقد أحدث السؤال الآتي انقلاباً في اهتماماتها، وهو أنه إذا لم يكن ثمة من يقرأ الدوريات الاقتصادية من أجل التسلية، فكيف نفسر ‏الإثارة الهائلة التي استُقبل بها كتاب آدم سميث "ثروة الأمم"؟ نجد الجواب في كتابات ‏هيغل، فنصوصه تُظهِر تأثره العميق بالكتاب، وخصوصًا دعوة سميث إلى تقسيم العمل إلى مهمات صغيرة، ‏الذي كان هيغل يعتقد أن له القدرة على تبديل شكل الحياة الاجتماعية، وبدأ ‏يشير في كتاباته إلى "الاقتصاد الجديد" أساسًا لفلسفة الدساتير، كما أنه رصد بدقة في الحياة ‏الاجتماعية وقتذاك ما ندعوه اليوم "الحداثة"، ونذر نفسه لفهم الدلالة الفلسفية لهذا التحول. ‏

يستند الكتاب إلى أن هيغل كان أولَ فيلسوف يصف السوق العالمي اللاإقليمي للنظام الاستعماري الأوروبي، إذ يقدِّم هيغل صورة للعبيد يصارعون لإطاحة عبوديتهم وإقامة دولة دستورية في ‏هايتي قبل مئتي سنة من الآن، والتي أسست أول جمهورية مستقلة للسود في العالم، وهنا مفصل يرى فيه هيغل تحققًا ‏للحرية، حين انبثق الاعتراف المتبادَل بين الأكفاء في هايتي، وأظهر العبيد قدرتهم على أن يصبحوا ‏فاعلين نشطين في حركة التاريخ من خلال صراعهم ضد العبودية بعد نسيان استمر قرنين، وهنا تحديدًا يظهر "اللغز" ‏الذي يحفز مقالة ‏‎"‎هيغل وهايتي‎".

ويوضح الكتاب أنه كان يُنسَب الفضل في كشف استلهام هيغل أحداث سان دومانغ (التسمية الفرنسية لهايتي ‏قبل حصول الهايتيين على استقلالهم عام 1804) إلى‎ ‎‏سلسلة مقالات كتبها بيير فرانكلين تافاريس في تسعينيات القرن العشرين عن تأثر هيغل - ‏‎"‎المنشغل‎"‎‏ بقوة بمسألة العبودية - بما كتبه ‏الأباتي رينال عن تاريخ جزر الهند وتعرُّفه فيه إلى العبودية في الكاريبي، كما استنتج ‏نيكولاس نسبيت من قراءته "أصول فلسفة الحق‏" لهيغل‎ ‎أنه نص "تقدّمي" يقدم أول تحليل عظيم للثورة الهايتية من حيث ‏‎"‎تحليله ‏ودفاعه الجذري عن حق العبيد في الثورة". ويتضح من كلام الكاتبَين اتفاقُهما على وضوح الصلة بين هيغل وهايتي.

تنقل باك-مورس قول أحد أساتذة الفلسفة لها إنه لن يغيّر طريقة تدريسه هيغل ولو اقتنع بأن هايتي كانت في ‏ذهنه وهو يكتب، ثم تُعقِّب بالقول إن هذا المنظور بالذات هو ما أرادت زعزعته، معتبرةً أن تعثُّر الباحثين في ‏فلسفات الحرية الحديثة هو بسبب جهلهم تاريخَ هايتي، وأنه لا يمكن فصل فلسفة هيغل عن مكبوتاته. ‏

ولكن لماذا لم يناقش هيغل أحداث هايتي صراحة في نصوصه؟ وهل كان مسؤولًا ‏عن الصمت عن الثورة الهايتية؟ يلفت الكتب إلى أن نسبيت يُرجع ذلك إلى أن هيغل كان يُحيل في نصوصه لقرّائه ما يُفهمهم المغزى، أما تافاريس فيزعم – نقلًا عن جاك دون- أن صمت هيغل ‏هذا، الذي يجعل قراءة هيغل قراءة باطنية ضرورياً، ناتج من صلاته بالماسونية، التي كانت تشترط السرية على أعضائها، ‏فقد كان هيغل قارئاً مداوماً لدورية "مينرفا" الماسونية، كما كانت سيبيل فيشر على صواب في قولها إن قطع هيغل مناقشته لجدلية السيد والعبد أدى إلى نشوء أعمق الاختلافات ‏في الكتابة عند هيغل‎.‎‏ ‏

ومنهم من أرجع صمت هيغل، كتيري بنكارد ‏‎في السيرة التي خطّها عنه، إلى البؤس ‏الذي عاشه‎:‎‏ بلا مال، بلا عمل، مع امرأة هجرها زوجها وطفلها.. ورجل بهذه الحال لم يكن ليضمِّن عمله ‏إشارات إلى هايتي لا تحبّذها السلطات الألمانية ولا نابليون فيعرِّض نفسه للاعتقال؛ ما دفعه إلى قبول وظيفة في ‏صحيفة "بامبرغ تسايتونغ"‏ المؤيدة لنابليون.‏

يُذكر أن اهتمامات سوزان باك-مورس البحثية تتركز في قضايا العولمة والدراسات الثقافية والنظرية الفنية. وهي حاصلة على دكتوراه في التاريخ الفكري الأوروبي من "جامعة جورج تاون"، وتشغل حاليّاً منصب أستاذة في الفكر السياسي في جامعة مدينة نيويورك، كما درّست في جامعة كورنيل أكثر من 30 سنة. من مؤلفاتها: "أصل الديالكتيك السلبي"، و"عالم الأحلام والكارثة"، و"التفكير في ما وراء الإرهاب: الإسلاموية والنظرية النقدية لدى اليسار".
 

المساهمون