سيلفيا فِرّارا... اقتفاء تاريخ الكِتابة

23 فبراير 2021
نقشٌ تصويري على لوح طيني من حضارة سومر، 3000 عام قبل الميلاد تقريباً (Getty)
+ الخط -

لا يتعلّق كتاب "التّاريخ المُدهش لاختراع الكتابة"، (الصادر عن دار "سوي" في فرنسا، كانون الثاني/ يناير 2021، بترجمة جاك دالرون) لا بالإغريقيّة القديمة ولا بالبِدايات السحيقة للألفباء. إنّه، بالأحرى، سرديّة غير خَطيّة، تروي المسارات المتعدّدة والمعقّدة لانبثاق أكبر اكتشافٍ في العالم. بهذا المعنى صدَّرت الباحثة الإيطاليّة، سيلفيا فِرّارا (ولدت سنة 1976)، كتابَها هذا الذي يَستعرض المَراحل المتعرّجة التي شهدتها الكِتابة عبر العصور، في مختلف المُجتمعات البشريّة.

انطلق عمل سيلفيا فِرّارا، المتخصّصة في حقل الحَفريّات والفيلولوجيا، من سؤال مركزيّ: لماذا شَرع الإنسانُ، ذات يومٍ، في الكتابة؟ وكيف عنَّ له أن يبدأ في استِخدام رموز مَرقومة ورسوم ليدلَّ بها على ما في ضميره وينقلَ عبرها ما يَجيش فيه من أفكار وهواجسَ؟ حاولتْ الكاتبة، عبثًا، تعيينَ المَكان والزمان اللذَيْن حَصلت أثناءهما هذه النّقلةُ من الضمير إلى الرمز، فلم تَظفر بتعيين جازمٍ لهما، لا لأنّ المعلومات شحيحة، بل لأنَّ مخاضات النّشأة كانتْ متعدّدة، وأماكن ظهورها، جغرافيًّا، مُتباعدة. كما أنَّ ادّعاءاتٍ غير علميّة، لَصيقة بالمجد الوطنيّ، غالبًا ما تَنسبُ ابتداءَ هذه المغامرة إلى حضارةٍ واحدة، كالآراميّة أو البابليّة أو الهيروغليفية. ولكنّ الحقيقة، كما تؤكّد الباحثة الإيطالية، أنّ إنشاءَ الرسوم محاولةٌ مُشترَكة بين عديدٍ من الثّقافات والحضارات القديمة، مثل الإغريق والسّريان والصينيين والعرب: كلٌّ، على حِدَة، اجترحَ، في أرضه، هذه المغامرة.

وللخوْض في الأسرار الحصينة لبدايات الكتابة ووظائفها، تُسافر بنا الباحثة في مَجاهيل الزمان والمكان لدى الشعوب البدائيّة والقَبائل البائدة، وكذلك في أطوار العصور القريبة منّا، تتعقّب المسارات الطويلة التي قَطعتها الكتابة. وقد تسلّحت، في ذلك، بفَرضيّة جديدة مفادها أنّ الإنسان اكتشفَ الحروفَ وسوّاها أدواتٍ للتعبير، ثم ما لبث أن أضاعها، أو ضاعت، في غيابات النسيان. فأعادَ الإنسان الكرَّةَ حتى استقرّت حروفه رموزاً ثابتة، ألَّف منها كَلمات ومن هذه عباراتٍ وجملاً. وبناء عليه، لم تَكن النشأة الأولى، في بلاد ما بين النهريْن، منذ أربعة آلاف سنةً قبل الميلاد، سِوى مغامرة من ضمن مُغامرات أخْرى، ريثما نُسيت لتتلوها مبادرات في أصقاعٍ الأرض المُتباعدة.

الكتابة بالرسوم محاولةٌ مشتركة بين ثقافات وحضارات قديمة

هكذا، تُهدي لنا الكاتبة ما يشبه السرديّة التي تنقلنا من بحر إيجة إلى أدغال الصين، ومنها إلى جُزر الباك، مرورًا عبر بابل ومصرَ إلى الولايات المتحدة، أرض الهنود الأصلية، وتَتبع فيها، خطوةً خطوة، التطورات التي شهدتها الأبحاث عن هذه المغامرة بعد أن أثْري هذا الحقل البحثيّ، حديثاً، بالكثير من الرّسوم والخرائط والصُّور الجديدة عن الأبجديات، ممّا يَجعل الكتابَ نصًّا يُثقّف القارئ، وفي الآن ذاته، يَحملُه على أثير الأحلام. وهكذا، فالطّريف في هذه المقاربة أنَّ عالَمة الفيلولوجيا الإيطاليّة لا ترسم طريقًا خَطيًّا تصاعديًّا، عن تطوّر الكتابة، كما لو أنها اتبعت مسارًا يتيمًا، بل تعيّن بِدايات متعدّدة ومغامراتٍ متنوعة، بَدأت وتراكمت لكنّها توقَّفت لتعود من جديد، عدّةَ مرَّات، في أماكنَ متغايرة من الأرض، قد لا تكون بينها صلات تجاريّة أو ثقافيّة.

كما وضعت الباحثة مفهوم "الشرارة"، وتعني به هذه اللحظة اللامعة التي يتلاقى فيها، ضمن لحظةٍ سحريّة، الرسمُ ليعبّر عن الصّوت (الحروف)، صورةٌ ونغم يَنبَجسان معًا ليتّقدا في الذّهن البشري فيولّدا طاقته على التدليل على العالم. لكنْ، هل كان بإمكان الإنسان أن يتجاوز الكتابة ويَزهَد فيها؟ نَعم، تؤكّد المؤرّخة: لم تكن الكتابة حتمًا من السماء، ولا حاجةً أملتها الضرورة، لكنّها تظلّ، مع ذلك، الاكتشافَ الذي غيّرَ وجهَ التاريخ، وأتاح للإنسان تجويد الترميز والسّرد والتواصل. وهو ما كان عبَّر عنه أبو عمرو الجاحظ (775-868) بمفهوم "البيان"، الذي هو "اسمٌ جامعٌ لكلّ شيء كَشَفَ قِناعَ المعنى وهتَكَ الحجب دون الضمير"، أو كما قال في موضع آخر: "فبأيّ شيء بلغتَ الإفهامَ وأوضحتَ عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع".

غلاف

وقد عادت فِرّارا إلى أربع جُزر نائية وبيّنت كيف حاول ساكنوها ابتكارَ نظام من العلامات منفردةً، ساهَمت في التواصل فيما بينهم، مع أنّها لم تتجاوز حدود جزرهم. كما ضربت مَثَل سيكويا (حوالي 1770 - 1843)، "الهنديّ الأحمر"، الذي ابتَكر من العدم حروفَ "شيروكي"، في القرن التاسع عشر، حتّى يمكّنَ شعبَه من تدوين ثَقَافته وتَحصينها من الاضمحلال ــ وهو حالةٌ خاصّة نادرة. وأمّا القاعدة، فهي أنَّ الكتابة مسارٌ طويل معقّد يُبنى على التراكم والقطيعة والتجاوز، وهذا ما ينطبق تماماً على الكتابة العربيّة، التي استَوت بعد مضيّ أكثر من أربعة عشر قرناً من الأخطاء والتحسينات المتعلّقة بموضع النقاط وتعريق الحروف وربط التاءات وفتحها ووضع الهمزة... فالحروف التي نتداولها اليوم، مع جِهازها في النقْط والإعجام، تطوّرت عن عديدٍ من المحاولات، منذ الرسوم الأولى التي وُجدَت على مَنقوشات شبه الجزيرة العربيّة.

وقد سَمَحت هذه الأمثلة، التي تعقّبتها فِرّارا بالتنظير، إلى نموذجٍ توليديّ عامّ لاكتشاف الكتابة، تدرسُ من خلاله آليات الانتقال من الكلمة إلى الرمز، ومن هذا الأخير إلى صوتٍ مَنطوق، والكيفية التي تنتظم بها هذه الرموز ــ الكلمات لتعبّر عن فكرةٍ، ليَتمّ ما سمّاه عبد القاهر الجرجاني (1009 ـ 1078) بالانتقال من المحسوس إلى المعقول، أيْ: من المادّيّ إلى المجرّد، من عالَم الأشياء إلى كون الأفكار والنظريّات والعقائد.

تحاجج الكاتبة بأنّ الإنسان اكتشف الحروف واستخدمها لفترة ثم نسيها

ومع الأسف، لم تخصّص الباحثة الإيطالية، على قُرب الدّار، صفحاتٍ موسّعَةً عن الكتابة العربية لدَمجها في هذه التواريخ المتعدّدة المتنوّعة لانبجاس ظاهرة الرَّقْم لدى الإنسان، والتي لا شكّ أنّها أسهمت في إثرائها بفضل الكلمات المسافرة. ولذلك، من المأمول أن يَتَصدّى للكتاب فريقا عملٍ عربيّان: يعمَل الأوّل على ترجمته إلى الضّاد، ويَجتهد الثاني في إعادة رسم التاريخ الطويل الذي مرّت به كتابة الضاد.

وكان قد سبق للباحث الأردني ناصر الدين الأسد (1922 - 2015) أن اشتَغل على بعض عناصر هذا التاريخ في أطروحته: "مَصادر الشعر الجاهلي"، حيث ألقى النظرات الأولى على هذا التاريخ الذي ضاع بين جدالات المستشرقين وناقديهم، وخصوصًا بين مرجليوث (1858 - 1940) والباحثين العرب، أو تاهت في مشاحناتٍ إيديولوجيّة بسبب ارتباط الكتابة بجمْع القرآن وتدوينه. فالتنقيب العلمي، في هذا الحقل عمومًا وفي تدوين القرآن والحديث وسائر فنون الثقافة خصوصًا، من الضرورات العاجلة في حلّ قضايا عالقة، تتّصل بصِدقيّة الوثائق التي عُثر عليها، وبحقيقة المضامين المعرفيّة التي سُجّلت على الجلود وأوراق البردي وغيرها من المستندات البدائيّة.

هل نذكِّر بأنّ الدراسات القرآنيّة الحالية، المزدهرة في أوروبا وأميركا في أيّامنا هذه، متوقّفةٌ كليًّا على إنجاز هذا التاريخ والإسراع في تحريره وتحقيقه، لكي لا نُطيلَ أمَدَ سخافاتٍ ممجوجة، كتلك التي كَتبها كريستوف ليكسونبرغ عن تدوين النصّ القرآني وربطْه بالسّريان وما توَهّمه من حَيرة المفسّرين أمام خُطوط "الكتاب" الذي لا ريب فيه؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون