في كتابه "سياحة الموت: كوميديا الغرباء"، الصادر مؤخراً، يتجوّل الروائي المصري شادي لويس في متحف يهودي من متاحف الهولوكوست بالعاصمة الليتوانية فيلنيوس. كان ذلك في أحد نهارات أيلول/ سبتمبر 2021؛ حيث صورة بن غوريون معلّقة على مدخل المتحف، فكان للكاتب أن ينتبه إلى أن هذا "الذنب (ذنب الإبادة) موزَّع على الجميع ومعمَّم"، لكن في الوقت عينه، مع صورة بن غوريون، فإنّ "التفريق الصوابي" اليهودي والإسرائيلي يبدو باهتاً في المتحف اليهودي في معظم الأحيان.
في ذلك المكان، كان لويس يُعاين مجسَّماً لنفقٍ حفره اليهود هرباً من النازيّين وأُلقي القبض على أغلبهم، ومصادفةً، في ذات الوقت، كانت قوّات الاحتلال تُلقي القبض على آخر الشباب الفارّين من سجن جلبوع.
هذه زاوية نظر ليست جديدة، لكنها كالنهر بل كالدم، جديدة ومتجدّدة كلّما قلّبنا تاريخ الحركة الصهيونية الاستيطانية التي ثابرت على احتكار دور الضحية ومنْعِه كلّما استطاعت عن الفلسطيني بوصفه "حيواناً بشرياً"، كما هو مُبرّر جيش الاحتلال في المذبحة الجارية الآن.
يُكذِّب المشهدُ الشعبي الأساطيلَ الإعلامية الدعائية
لذلك، كان لقاء المنتدى الشهري "حديث الألِف"، الذي تُنظّمه مجموعة "فضاءات" في الدوحة، أمس الأربعاء، يطرق باب هذه الإبادة اليهودية لأنّها تُؤدّي مباشرةً إلى إبادة الفلسطينيّين، وبالأساليب نفسها التي يقول لويس إنّ النازي والفاشي استخدمها لنزع إنسانية جماعة بشرية لتسهيل قتلهم كفوائض بشرية غير قابلة للحياة ومُفسدة لها.
تَناول الكاتب أبرز تمثُّلات الحلف الغربي الرسمي مع العدوان الإسرائيلي على غزّة في جانبها الثقافي، وهو ما على المنتدى أن ينشغل به، ومن ذلك حرمان الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي من تكريمها في معرض فرانكفورت، تضامناً مع "إسرائيل"، وردّ الكثير من الكتّاب والناشرين والمؤسّسات الثقافية، ومن بينهم شادي لويس نفسه، بالانسحاب من المعرض.
ويلاحِظ الكاتب أنّ ثمّة نزعةً بعدم الاعتراف بوجود الفلسطيني، إذ لا بدّ من أحد الوجودَين أن يكون فاعلاً وحيوياً منذ مقولة "أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض"، ولا بدّ من التقليل من قيمة الحياة الفلسطينية وجدارتها بأن تكون مساوية لحياة الآخرين.
وعليه، كما يتبنّى الكثيرون، على غرار كتاب "صناعة العدو، أو كيف تقتل بضمير مرتاح؟" للكاتب الفرنسي بيار كونيسا، يُعيد لويس التأكيد على أنّ الإبادة في المستوى الثقافي هي بنية لغوية مؤسّسة تتّهم الضحية بأنّه غير مؤهَّل ليكون عضواً في أي فضاء ثقافي حاملاً سرديته المناقضة للمشروع الاستيطاني، فيكون المناخ مهيأً لتفهُّم وصمه في الأثناء بالتطرّف والإرهاب. وإذا تطلَّب الأمر، يمكن تشرُّب اعتباره حيواناً، ثم يصبح قتله سهلاً.
واستدعى الكاتب تنظيرات الفيلسوف الألماني (اليهودي) والتر بنيامين التي تفيد بأنّ كلّ وثيقة للحضارة هي وثيقة للبربرية، وكما أنّها قادرة على صنع الخيال العظيم لإقامة دولة قومية أو وطنية باللغة والرموز والصور، يمكن أن تكون عكس ذلك حين تنزع الإنسانية عن جماعات بشرية بعينها.
هذا هو السياق الراهن الذي يستلهم مقولات بنيامين ذي الدماء الحارّة التي تسيل من الفلسطينيّين في الوقت الذي تجري فيه عمليات تضليل مسعورة في الإعلام الغربي.
ضغط مضادّ من مثقّفين وصحافيّين ومنظّمات في أوروبا
وأمام الحضور في "مكتبة ألِف"، التي تحتضن المنتدى، كان الكاتب القادم من لندن حيث يقيم منذ 2006 ويحمل الجنسية البريطانية، يَسوق جملة من الأمثلة المفزعة وهي لا تُفبرك كما فُبركت تهمة قطع رؤوس الأطفال الرضّع على يد حماس، بل تتعمّق أكثر في تسخير اللغة لضرب المعنى والدلالة المتعلّقَين بالسردية وكيفية تقديمها بعدالة.
ممّا تطرق إليه لويس النزوع الدائم، كما في نماذج "بي بي سي" و "سي إن إن"، إلى جعل الإسرائيلي قتيلاً والفلسطيني ميتاً، كأنّ من الطبيعي أن يموت الفلسطيني من دون فعل فاعل.
وفي مثال آخر، فإنّ استشهاد نحو تسعة آلاف فلسطيني في غزّة نصفهم من الأطفال الرضّع ودون سن المدرسة يوصفون هناك بـ"القاصرين"، وهذا يُمرّر الجريمة بكلفة أقلّ بكثير ممّا لو كانوا أطفالاً. الأطفال ينبغي أن يكونوا إسرائيليّين فقط.
وبشكل محموم هناك على مقلب وسائل التواصل الاجتماعي تتحوّل المنصّات، وأشهرها فيسبوك الذي آمن الكثيرون أيام الربيع العربي بدوره في سيرورة آمال الشعوب بالدمقرطة، أصبحت نفسها، كما يواصل، تتولّى رقابة أكثر شدّةً من الأنظمة القمعية، عبر حجب المحتوى الفلسطيني والتضييق عليه.
ورغم كلّ هذه الأساطيل الإعلامية الدعائية، فإنّ شادي لويس ممّن ينادون بالاقتراب أقرب مسافة ممكنة لتفحُّص المشهد الجديد في الغرب الذي نخطئ في فرزه حدياً وتعليبه في علبة واحدة، حتى على الصعيد الرسمي، مثلما شهدنا مواقف مناهضة للعدوان الإسرائيلي في النرويج وإسبانيا وأيرلندا، وبروز أصوات شجاعة من مسؤولين اتّهموا "إسرائيل" بارتكاب جرائم إبادة وقدّموا استقالاتهم من مناصبهم.
تَناول أبرز تمثُّلات الحلف الغربي الرسمي مع العدوان
أمّا الصعيد الشعبي، فيلاحِظ تطوّر العمل من مظاهرات إلى اقتحام مقرّات ومكاتب كما فعلت ذلك جماعات يهودية معادية للصهيونية في الكابيتول الأميركي، ومكاتب المسؤولين، مبدياً أسفه حين قال إنّ الناس في بلاده لا ينزلون إلى الشارع للتضامن مع غزّة، لا لقلّة في الغضب والرغبة في التعبير، بل خوفاً من الاعتقال.
ولم يتجاهل ضيف "حديث الألِف" الضغط المضادّ من مثقّفين وفنّانين وصحافيّين ومنظّمات في أوروبا، وتحديداً في مثال ألمانيا التي تدعم "إسرائيل" بتحيُّز فاقع، ومن ذلك ربطهم معاقبة حاملي الرموز الفلسطينية من كوفية وعلَم مباشرةً بانزلاق بلادهم نحو ضرب ميراث الديمقراطية وحرية التعبير، لافتاً إلى أنّ هذه الضغوط ترفض تماماً الربط المؤسّساتي الرسمي بين غزّة وما وقع في 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
وفي حديثه عن الكتابة والفنّ خلال وقوع الحرب، قد يكون، وفق ما يتناوله من اقتراحات لها منتموها، أنّ كتابة الشعر على سبيل المثال "عمل بربري بعد أوشفيتز"، كما يذهب عالم الاجتماع الألماني ثيودور أدورنو.
يُبدي الكاتب مخاوفه "ممّا يمكن أن نقوله عن فلسطين"، مع الشعور بالفقد العظيم والانسداد اللغوي لقسوة ما يقع، "إذ لا يمكن أن نصف شعور طفلة تحت حطام عمارة لا نستطيع إخراجها بيُسر، لأنّ المجتمع الدولي ببساطة يمنع الوقود الذي يُغذّي الجرّافة".
لشادي لويس روايات "طرق الرب" (2018)، و"على خطّ غرينتش" (2020)، و"تاريخ موجز للخليقة وشرق القاهرة" (2021). وفي ملاحظة لأحد السائلين حول المِسحة الساخرة في كتابته، قال إن رواية الكاتب الفلسطيني إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" غيّرت حياته، بما فيها من متعة وسخرية من الألم. وهو بذلك يؤمن بفعل السخرية السحري الذي يجعل الناس كلّهم في مستوى واحد دون أن يقعوا في الشفقة، وهي ما قال عنها نيتشه إنها تضع المُشفِق في مرتبة أعلى من الضحية وتمنّ عليها، ما يجعلها من أحطّ المشاعر الإنسانية.