للوهلة الأولى، قد يبدو التحليل النفسي الفرويدي النقيضَ المثاليّ للفلسفة. ففي حين يبني الفلاسفة خطابهم، منذ قرون، على ما تعنيه مفاهيم مثل الوعي والذات والمعرفة، فإن فرويد يؤسّس مقولات التحليل النفسي على اللاوعي، أي تحديداً على لامعرفة المرء حتى بذاته، بشكل جزئيّ على الأقل.
لكنّ هذا التباين ــ وإن كان فيه شيءٌ من الصحّة ــ، يقوم على تضخيم للاختلافات. صحيحٌ أن فرويد سعى جاهداً إلى تجنّب "التجريدية" الفلسفة، مركّزاً على ما تقدّمه التجربة كمادّة أولى لبحثه، إلّا أن هذا لم يمنعه من الاستشهاد، طيلة مسيرته، بعشرات الأسماء والمفاهيم والأطروحات الفلسفية، وهو الذي عرف الفلسفة والفلاسفة عن قُرب في شبابه، من خلال حضوره لدروس الفيلسوفين فرانز برينتانو وتيودور غومبيرز، وترجمته نصوصاً للفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل.
كلّ هذا يجعل اللقاء بين فرويد والفلاسفة أقلّ صدامية. لكنّ هذا لا يمنع من أن يكون لدى الطبيب النمساوي الكثير ممّا يقوله عن شخصياتهم وتجاربهم ولا وعيهم، من وجهة نظر تحليلية، وهو ما يحاول أن يتخيّله الباحث الفرنسي شارل بيبان في كتابه "الفلاسفة على الأريكة: مرضى د. فرويد الثلاثة"، الصادر حديثاً في طبعة جديدة عن منشورات "قرأتُ" (J'ai lu) في باريس.
المرضى الثلاثة المقصودن هنا هم أفلاطون وكانط وسارتر؛ حيث يقف القارئ على مجيء كلّ منهم، في فصل على حِدة، إلى عيادة فرويد بحثاً عن التداوي أو علاج بعض الأعراض الجسدية والنفسية. ويُسند المؤلّف مهمّة الروي إلى فرويد، حيث يتقمّص شخصيته ويتحدّث من خلالها ــ ومن خلال معارف التحليل النفسي والفلسفة ــ بضمير المتكلّم، محوِّلاً كتابه إلى نصّ تخييلي فكريّ.
لكنّ شارل بيبان ينبّه قرّاءه إلى أن التخييل يتوقّف عند لقاء فرويد بهؤلاء الفلاسفة، في حين أن كلّ المعطيات عن حياتهم، وعن رؤاهم الفلسفية، هي معطياتٌ حقيقية، وردت في سيَرهم أو ما كُتب عنهم وما قالوه عن أنفسهم.
وضمن رؤية تعليمية، حيث الرغبة في شرح مذاهب هؤلاء الفلاسفة ونظرياتهم ووضعها مبسّطةً بين يدَيْ الجمهور الواسع، تتنقّل فصول الكتاب بين حديث الفلاسفة عن أعراضهم النفسية والجسدية، وبين شرحٍ لهذه الأعراض انطلاقاً من تجاربهم الحياتية ومن فلسفاتهم.
كما يقوم المؤلّف بالمهمّة نفسها لكن على المقلب الآخر، حيث يشرح فلسفاتهم انطلاقاً من التجارب التي عاشوها، ومن خصوصياتهم الجسدية والنفسية والاجتماعية، وهو ما يعطي صورة من لحم ودم عن فلاسفة لطالما نُظر إليهم بوصفهم أرواحاً تؤلّف، لا أجساداً تعيش وتختبر الحياة.