لم تحظَ أيّ ترجمة عن العربية في إيطاليا خلال العقد الأخير بالصدى الذي حظيت به "رحلة إلى صقلية" لابن جبير، الصادرة العام الماضي عن "دار أديلفي" في ميلانو. وقد تصدّرت مراجعات الكتاب، الذي أشرفت على ترجمته والتعقيب عليه المستشرقة جوفانّا كالاسو، الملحقات الثقافية لكبريات الصحف الإيطالية بتوقيع أسماء صحافية وأدبية بارزة، كما حطّت التنويهات بالإصدار حتى على الصفحات الثقافية للجرائد الإقليمية الصغيرة والمواقع الإلكترونية الشعبية التي تُعنى عادةً بنشر مراجعات الأدب المعاصر.
يصبح بذلك نجاح العمل حالةً لافتة تستحقّ الوقوف عندها، خصوصاً أنّ الأمر يتعلّق بنص كلاسيكي لا يتوافق مضمونه ظاهرياً مع التيار السائد في الإعلام الإيطالي الذي يفضّل، بشكل واضح، السرديات المتناسبة مع سياسيات الهوية المعاصرة. فكيف تحوّلت رحلة محفوفة باللاصوابية السياسية أتت في زمن الحروب الصليبية إلى نشيدٍ في مديح التعدّدية الثقافية والعيش المشترك، وما المقاربة التي اعتمدتها المترجمة الإيطالية لتحقيق هذه الطفرة في عملية التلقّي؟
تؤكّد المترجمة، في تصدير العمل، أنّها تطرح ترجمةً هي الأقرب إلى الأصل، مقارَنةً بالترجمات السابقة لكبار المستشرقين؛ فهي "لا تُسقط شيئاً من النص، بما في ذلك التسابيح، والدعوات، والابتهالات"، ولكنها تقدّم ترجمة بلغة أكثر عصرية كما تقول، من خلال التخلّي عن بعض الخصائص الأسلوبية التي لا يمكن ترجمتها بالإيطالية، ليغدو النص، بحسبها، مستساغاً أكثر حتى للقارئ غير المتخصّص.
النتيجة العامّة لهذه الاستراتيجية في النقل تمثّلت في خلق سِجلّين لغويّين داخل النص، بدت من خلالها الأذكار والابتهالات التي أوردها الشاعر على نحو سلس في الأصل، وكأنّها أصوات نشاز دخيلة على السرد بعد الترجمة، وحيث إنّها ظَهرت أيضاً في الطباعة بخطّ مائل، وهو ما عرقل التدفّق الطبيعي للنص.
أتت الخيارات الترجمية على حساب جماليات النصّ الأصلي
فشَلُ استراتيجية المزاوجة بين سِجلين لغويّين مختلفين في النص المترجم تبيَّن أنّه هو المطلوب، من خلال ما ورد في المقالة النقدية التي أعقبت الترجمة، وإذ تشير أستاذة الحضارة الإسلامية في جامعة روما إلى أنّ الابتهالات المتكرّرة، التي من شأنها "إثارة الملل" لدى القارئ الغربي، تُمثّل هي، والاستعارات القرآنية، جزءاً من لغة الكاتب سيفهمها قرّاؤه، وهم المعتادون على حفظ القرآن منذ الصغر.
ميزة النص "الثقيلة" هذه، بتعبير المترجمة، يكون ابن جبير أيضاً قد قصدها، لدفع القرّاء لملاحظة ورَعِه وتقواه، وكذا استعراض مهاراته البلاغية، ليتّضح بذلك أن الخيارات الترجمية للمستشرقة أتت لتعزيز قراءة خاصّة لها عن شخصية ابن جبير على حساب جماليات الأسلوب وسلاسة السرد في النصّ الأصلي.
وعدا عن المقاربة الاستشراقية العامّة في ترجمة كالاسو، والتي حوّلت نصّاً انسيابياً يعتبره النقّاد من أجمل القطع النثرية في أدب الرحلات العربي إلى نصّ غير مستساغ ومليء بالمطبّات في الترجمة الإيطالية، تميّزت المقالة النقدية المطوّلة التي أعقبت الترجمة، والموزَّعة على خمسة فصول، بتوظيف تقنيتين برزتا بقوّة في الخطاب الاستشراقي الجديد في إيطاليا؛ الأُولى تقنية قلب ورقة الاستشراق وعكس دور الضحية فيما يخصّ التمثّلات الثقافية المغلوطة والمبتورة. برز هذا الملمح، على سبيل المثال، من خلال الإشارة إلى أن ابن جبير لم يعِ الفرق بين مسيحيّي صقلية الكاثوليك والأرثوذكس، وأنّه كان يطلق على المسيحيّين عامّةً تارةً اسم الروم، وتارةً اسم النصارى، وتارةً أُخرى اسم المُشرِكين أو عُبّاد الصليب، على اعتبار أنّهم كتلة واحدة.
وقد بدا بشكل واضح أنّ ملاحظة المستشرقة ترمي لإظهار السطحية لدى الشاعر الأندلسي، وهو الأمر الذي حرَصَت على تكريسه في مواضع مختلفة في مقالتها، ووصل حدّ التلميح إلى جهلٍ مُركّب كان يُعاني منه الشاعر ضمن ثقافته نفسها. ولا يتّسع المقال هنا لذكر كلّ الأمثلة.
قراءة تقلب ورقة الاستشراق بغرض تقمُّص دور الضحية
وأمّا التقنية الاستشراقية الأُخرى، والتي غدت رائجةً في السنوات الأخيرة، فتستدعي استحضار اليهود وفبركة حالة من الغيرة أو الكره من المسلمين إزاءهم بحسب ما يقتضيه السياق. وفي نصّنا، تُشير المستشرقة إلى أنّ باليرمو في فترة زيارة ابن جبير كانت تُحصي وحدها قرابة ألف وخمسمئة يهودي، إلّا أن ابن جبير أسقطهم من نصّه، ليُصبح الشاعر الأندلسي مُتّهَماً ضمنياً بعِداء غير مبرَّر لليهود. وتُعلن المستشرقة بذلك اصطفافها على نحو غير مباشر مع أصوات جديدة لباحثِين أوروبيّين من اليمين المتطرّف أخذوا بالتشكيك في التعايش السِّلمي بين الأديان في الأندلس، وحيث زعمت المترجمة، في أحد هوامشها، أنّ المسيحيّين واليهود كانوا يعانون من قوانين تمييزية في بلاد المسلمين زمن ابن جبير. فكيف أمكن إذن اعتبار إصدارٍ كهذا نشيد الإنشاد في التعدّدية والتعايش بين الثقافات؟
لفهم طبيعة تلقّي هذا الإصدار في وسائل الإعلام الإيطالية، والاحتفاء الشديد الذي قوبل به على الصحف الليبرالية وصحف اليسار الكبرى، على الرغم من استشراقيته الصارخة، لا بدّ من فهم البُنية المعاصرة لسرديات ما بعد الحداثة، والتي لم يعد البطل فيها هو الصوت المهيمن على الأحداث، وإنّما الهامش/الضحية؛ فمَن الضحية في هذا النص (عدا عن يهود صقلية الذين أبادهم ابن جبير رمزياً خلال رحلته بحسب المستشرقة)، وما الدور الحقيقي الذي لعبه الشاعر الأندلسي في ترجمته الإيطالية الأخيرة؟
باختصار، قدّمَ ابن جبير دور الشرّير بأكمل معانيه في المخيال الأوروبي المعاصر: متديّنٌ جاهل وسطحي وعنصري وكاره لليهود ومنافق ومُراءٍ يُكرّر الأدعية فقط لإظهار ورع زائف، بل إنه قد يكون أتمّ رحلة الحج نفسها بحثاً عن المجد كما تشرح المترجمة في مقالتها، ضاربة المثَل برحّالة عرب آخرين حصلوا على الشهرة بعد الحجّ. أمّا ثالثة الأثافي فهي ذكورية ابن جبير ونظرته التجنيسية للنساء؛ حيث حرصت الباحثة، في مقالتها، على التذكير بأنّ ابن جبير وصَف الصقليات بالظباء من خلال البيت الشعري: "إنّ من يدخل الكنيسة يوماً/ يلقَ فيها جآذراً وظباءَ".
وهذه الملاحظة في العُرف النسوي الراديكالي المسيطِر حالياً على الخطاب الإعلامي في إيطاليا يجعل من صاحبه متحيّزاً جنسيّاً ومنمّطاً للنساء. لكن الغريب هو أن المترجمة لم تذكُر أنّ البيت الشعري الذي استحضره ابن جبير هو لشاعر مسيحي شهير في بلاط الأمويّين، هو الأخطل. وقد أغفلت المستشرقة بشكل كلّي التعليق على المرجعية الشعرية للرحّالة ولغته الفنية، بل ذهبت في مواضع أُخرى لوصف لغته بـ"العنيفة". وهكذا تمكّنت في المقالة المعنونة على نحو غير اعتباطي "جمال وخطر" (الجمال يعود إلى صقلية)، من رسم صورة منفّرة لابن جبير، وحيث إنها لم تترك أي مزيّة للشاعر في عين القارئ الإيطالي المعاصر، حتى أنّها فنّياً قتلت جماليات أسلوبه بدعوى "الوصول للقارئ غير المتخصّص".
الصوت المهيمن الكريه لابن جبير، كما صوّرته مقالة المستشرقة الإيطالية، لم يتمكّن من مقاومة كاريزما شخصية استثنائية مثّلت دور الضحية النبيلة في العمل لم نذكر اسمها إلى الآن، الهامش: الملك وليام الثاني! الملك الذي كانت صقلية تحت حُكمه جنّةً للتعايُش بين الأديان. والدليل هو ما رواه شرّيرنا نفسُه عمّا رآه في بلاطه من وجود للمسلمين.
ابن جبير المقيت، مع ذلك، كان يحاول دفع فتنة الجمال الأخّاذ والتسامح البديع لصقلية تحت حُكم وليام الثاني من خلال تكرار أذكاره على نحو وسواسي، وحيث إنّ ظلامية الرحّالة وتحيّزه منعاه حتى من وصف إحدى كنائس صقلية ونورها البديع "على الرغم من أنّه وصف المعابد الفرعونية بدقّة متناهية"، تهتف المترجمة الغارقة في سرديتها، وتُخصّص بنفسها صفحتَين من مقالتها لوصف المكان الذي أبخسه الرحّالة حقّه.
ووصل الأمر بابن جبير، الذي بقي وفيّاً لشرّه المتأصّل، حدّ اختلاق الأكاذيب عن ضحية هذه السردية وهامشها: الملك! حيث أورد الرحّالة ما سمعه من رعايا مسلمين عن اضطهادات كانوا يعانون منها تحت حُكمه، إلّا أنّ المترجمة رجّحت أن يكون ابن جبير من اختلق هذه الادعاءات، مُعتبرةً إياها "استراتيجية سردية" لتحقيق توازُن بين نوازع نفس الرحالة، التي عرّفتنا الكاتبة بدواخلها منذ البداية، وما شهده به هو نفسه عن وجود مسلمين في بلاط الملك كدليل عل تسامح وليام الثاني.
هذا التسامُح هو ما أشادت به كلّ المراجَعات التي صدرت حول الكتاب في الصحافة الإيطالية، وتمحورت جميعُها حول الملك الطيّب ومقالة المترجمة اللامعة، واضعةً بذلك "ضحيةَ" نصّ ابن جبير في محرق تركيزها، مُعيدةً الاعتبار إلى الهامش: الملك!
ذلك على الرغم من أنّ المستشرقة نفسَها أقرّت في مكان آخر أنّ العرب كانوا مصدر العلوم في ذلك الزمن، وهذا يعني أنّه كان من مصلحة ملوك صقلية تقريبهم إليهم، لكنّها لم تستفض في الفكرة.
في المقابل نجد الباحثة في التاريخ الإسلامي تشحذ كلّ أسلحتها المعرفية في نهاية المقالة لتفسير الادّعاءات التي ساقها ابن جبير والرعايا المسلمون عن الملك - الضحية، حيث أُتيحت الفرصة أخيراً للمستشرقة لشرح الجهل البنيوي الذي يعاني منه ابن جبير، والذي كان سليل منظومة فكرية قائمة على روايات سماعية "مضطربة ومشوَّشة"، والدليل النقل السماعي للقرآن والسنّة.
اللافت أنّ المقالة أسقطت معلومةً جوهرية وثابتة تاريخياً، وهي أنّه، وبعد خمسين سنة من رحلة ابن جبير هذه، جرى طرد المسلمين بالفعل من صقلية، بل يذهب بعض المؤرّخين إلى وصف ما وقع للمسلمين آنذاك بأنّه يرقى للإبادة الجماعية والتطهير العرقي. ويُستغرب أنّ هذه المعلومة لم تجد لها مكاناً في المقالة التي تجاوز طولُها حرفيّاً طول رحلة ابن جبير نفسها، وتضمّنت 126 هامشاً لنصّ أصلي من أربعين صفحة، فهل يصحّ أن يطغى صوت المترجِم، وقراءاته الخاصّة على صوت الكاتب، حتى وإن كان ذلك على أطراف النص من خلال خاتمة أو مقدّمة؟
في رؤيته للترجمة، يوصي فيلسوف التفكيكية جاك دريدا بإرفاق الترجمة بمقدّمة وبكتابة ملاحظات في الهوامش وإدراج حواش مع كلّ حركة. فمع إعادة توجيه محطّ الدراسات الفلسفية من الأُحادية إلى الاختلاف، ومن الشمولية إلى الإضافة، ومن النصّ إلى المقدمة التوضيحية، أصبحت الترجمة تحتلّ موقعاً أساسياً لا ثانوياً مقابل النص الأصلي، كما يُبيّن ذلك إدوين غينتسلر في "الاتجاهات المعاصرة لنظرية الترجمة". هذه الرؤية أصبحت هي القاعدة في الإصدارات الاستشراقية الجديدة في إيطاليا، والتي غدت المقدّمة والخاتمة وهوامش المترجم تلعب فيها دوراً أخذ يستبدّ بالأصل في أحيان كثيرة. فهل تحوّلت أدوات ما بعد الحداثة، التي أتت لتساعد الهامش/ الترجمة على البروز في مقابل الأصل/ المركز، سلاحاً في يد المستشرقين الجدد للعبث بالسرديات العربية وتكريس سردياتهم الخاصّة؟
الأكيد أنّ الترجمات العربية الجديدة في إيطاليا الحافلة بالمقدّمات والاستهلالات والتصديرات والتعقيبات والتعليقات والكلمات الافتتاحية والختامية، لا تنفك تتزايد ويزداد معها الشعور بمحاصرة النصّ الأصلي وتسطيحه وأدلجته وخنقه ودفعه لوجهات لا يعرفها سوى المترجم، ليبقى المستشرق هو المتحكّم دوماً في التمثّلات الثقافية باعتباره سابقاً مصدر السلطة المعرفية المتعالية في عصر المركزيات، ويتحوّل بعدها إلى الناطق الشرعي باسم الضحية من موقعه كمترجم يقف على أطراف النص، وممثّلاً للهامش بامتياز في عصر ما بعد الحداثة.
*روائية ومترجمة جزائرية مقيمة في إيطاليا