لطالما اعتَبر المُؤرّخون القرنين التاسع عشر والعشرين مسرحاً حقيقيّاً لاختبار الحداثة وتحوُّلاتها في مصر، على مستوى المجتمع أو السلطة. ومن أبرز هذه التحوّلات، الانتقال في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، من وضعية "الرَّعِيّة" إلى حالة المُواطنة الحديثة، وبِغضّ النظر عن مدى تحقُّق هذا الوصف فعلاً، أو العراقيل المانعة لحدوثه من قبل السلطة، إلّا أنّ سعي الجماهير في محطّات تاريخية شتّى يُثبِت توقها إلى تلك الصيغة.
"صحوة المحكومين في مصر الحديثة: من رعايا إلى مواطنين 1798 - 2011"، عنوانُ الكتاب الصادرة ترجمتُه حديثاً عن "دار الشروق" للمؤلّف محمود حسين (اسم مُستعار للباحِثَين: بهجت النادي وعادل رفعت)، وبتوقيع المُترجِم محمد مدكور، وفيه تحليلٌ عميق، عبر ستّة أقسام تتوزّع على ثلاثة وعشرين فصلاً، لهذه الرحلة الشاقّة التي خاضها الشعب المصري، بدءاً من غزو نابليون لمصر عام 1798، وصولاً إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير / كانون الثاني 2011.
نفَذَت هيمنة السلطة على محكوميها من الأجساد إلى الضمائر
يُميّز الكتاب (صدر أولاً بالفرنسية عن "غراسيه"، 2018) بين "السيادة الإلهية والطاعة البشرية"؛ حيثُ طغى الفصلُ الصارم على الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر مطلعَ القرن التاسع عشر، بين الطبقة الحاكمة وهي فئة أجنبية مُتسيِّدة تتمثّل بعسكر المماليك، ومن ثم أُسرة محمد علي، وبين الشعب المحكوم، ولا يجمع بينهما سوى الإسلام. أما على صعيد المهمّات والوظائف فلكلّ طبقة مُحدّداتها وعوالمها التي تتحرّك وفقها من دون أي احتكاك بالأُخرى. ويلفت الكاتبان إلى أن الدور الأهلي في صدّ الحملة الفرنسية، قد كسَر -إلى حدٍّ ما- السيادة المُطلَقة للحاكِمين حينها، وفي عام 1805 بدأ عصرٌ جديد مع استلام محمد علي باشا السلطة، الذي صعد عقب ثورة شعبية، سرعان ما وضع حدّاً لها.
العُقود التالية على ذلك التاريخ، كما يُفصّل الكتاب، ستبدأ بإخضاع الحاكم لعموم الشعب، وسيصبح الجميع مطالبين بإظهار الطاعة، هذا ما درج عليه الباشا وورثتُه، وإن مزج مشروعُهم بين تحديث المجتمع والدولة في الأُطر العامة، مع الحفاظ على الروح التقليدية التي تحفظ للأسرة مكانتها وتغلُّبها. ولن تنتهي هذه الحالة إلّا عام 1882، حيث سيضع الاحتلال الإنكليزي البلاد تحت شكل جديد من الهيمنة ذات قطبين: القنصل البريطاني من جهة، والخديوي ومستشاريه من جهة ثانية، وستستمرّ هذه الصيغة حتى إعلان ثورة 1919، التي أنهضت ما يُسمّيه الكاتبان بـ"الوجدان المصري"، وهو مصطلحٌ مُكثّف يصف حالة الطبقة الصاعدة التي تُعاود الظهور في محطّات من التاريخ لتكسر شرط الخضوع والتَّبَعية (الرعوية)، بإعلان دستور جديد للبلاد عام 1923، سيكون الأساس لتشكّل الوعي المُواطني الجديد.
يستند الكتاب إلى منهج طبقي في تحليل التاريخ وأحداثه، يُذكِّر بالعمل الأشهر، ربّما، لمحمود حسين "الصراع الطبقي في مصر: 1945 - 1967" (1969)، إلّا أنه يُحيل أيضاً إلى العوامل النفسية لدى الجماهير، وهنا تحضر مفردات كـ"الوجدان"، و"الروح"، و"الضمائر" لتؤكّد أنّ الحاكمين لم يكونوا ليمتلكوا أجساد محكوميهم فقط، بل تعدّوا ذلك إلى ما هو أعمق، وهذا ما يُفسِّر حال الثورات/ الانقلابات العسكرية التي أعادت إحياء رمزية الأبوية الحاكمة، حتى وهي ترمي إلى خلع المَلكية المُقدَّسة، كما يُفسِّر أيضاً ترميم الشعب نفسه للسلطة في لحظات انكسارها، وهذا حدث مع جمال عبد الناصر بُعيد نكسة 1967.
مع ذلك فإنّ عبد الناصر، وفقاً للكتاب، هو آخر صورة عن تلك الشرعية التي أحسّت الجماهير أنها ساهمت في صناعتها، وأنها أسبغت عليها "قدسية وطنية"، فالحالُ بعده باتت تُلخَّص بالانكفاء والغضب بعد أن أعلن الحاكم (أنور السادات) موالاته "إسرائيل". ولتصل أزمة الشرعية ذروتها مع حسني مبارك، ففي عصره بدأت أصواتُ المعارضة تتعالى وتتجسّد في كيانات سياسية وحقوقية، يتنامى فيها دور "الضمير المُواطني" هذه المرّة، وتضمحلُّ في المقابل رمزية الأب القائد، تلك الصورة الرثّة التي مُزِّقت في "ميدان التحرير" مطلع عام 2011، مُعلنة عن ثورة جديدة للمحكومين، وسعي في طريق طويل إلى الخلاص والمواطنية الحقّة، وإنْ حوصرت سريعاً بالعسكر والانقلابات.