تختصّ زاوية "صدر قديماً" بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها، وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. هنا قراءة في كتاب "النّقد المنهجيّ عند العرب" الذي وقّعه الناقد المصري محمد مندور (1907 - 1965) عام 1946.
كان محمد مندور (1907 - 1965) كاتبًا مُشاكسًا، لم تُسعفه الأيام بالقدر الذي لم يسعَ هو إلى مُكايستها، فظلَّ يُصارع قَدره ويُواجه عقبات البحث العِلميّ وصَمَم الإدارة ومكارهَ لُقمة العيش الكريم في مصر إبّان الحَرب العالميّة الثانية وما بعدها، مصرًّا على كرامته، محافظًا على حرّية فِكره وقَلمه حتى النّهاية. عمل في الجامعة ثم استقال وكتبَ في الصّحافة، فخاصَم معاصريه وكانت حياتُه سلسلة هزّات وخيباتٍ.
وقد شهد كتابُه: "النّقد المنهجيّ عند العرب" (1946) هو الآخر هزّاتٍ لافتة، سافر مضمونُه من مكتبات الحيّ اللاتيني والسوربون وروشيليو في باريس، نحو أحياء القاهرة ومكاتب "جامعة الإسكندريّة"، قبل أن يستقرّ، ولعقود طويلة، واحدًا من أهم مراجع النقد الأدبيّ لآلاف الطلبة في الوطن العربي.
تعود قصّة هذا التأليف إلى مَطلع سنة 1930، حيث كاد إجراء الكشف الطبّي الإجباري أن يحرم الشابّ محمد مندور من منحة جامعيّة ويقضي بعدم كفاءته الصحّيّة للسفر إلى فرنسا بسبب ضَعف شديد في بَصره. فما كان من أستاذه، طَه حُسين، إلا أن تَدخَّل شخصيًّا لدى وزير التعليم العالي لتوقيع قرار ابتعاثه وإعفائه من هذا الفَحص.
فهمَ الإسهام النقديّ العربي كحلقة ضمن سلسلة كونية
وبعد الاستقرار في باريس وإتقان الألسن الفرنسيّة والإنكليزيّة واللاتينيّة والإغريقيّة، وبعد التلقّي على يد كبار المستشرقين في أروقة الجامعات، شرع في تحرير أطروحته عن مناهج النقد الأدبيّ عند العرب، باللغة الفرنسيّة. إلّا أن ظروفَ الحرب العالميّة وخضوع باريس للاحتلال الألمانيّ أجبراه على العودة إلى القاهرة. لكنّ حليف الأمس، طه حسين، رفضَ إسناد أي مَنصبٍ له بحجّة عدم مناقشة أُطروحة الدكتوراه، فاكتَفى المسكينُ بساعات ضائعة لتدريس مادة الترجمة مِن وإلى الإنكليزيّة! وترجم حينها مخطوطَه إلى اللغة العربيّة حتى يجعل منها أطروحةً قابلةً للمناقشة حسب معايير "جامعة الإسكندريّة". وبالفعل، نوقِشت هناك بإشراف أستاذه أحمد أمين، وأصرّ طه حسين على رَفضه الاشتراك في المناقشة. ثم أعاد مندور صياغة أطروحته هذه وإجراء تعديلات عليها لتصدر أخيرًا بعنوان: "النقد المنهجي عند العَرب"، وتصبح كتابًا مرجعيًّا.
وأمّا موضوع هذا السِّفر، فعرضٌ تاريخي مفصّل للمواقف والمفاهيم النظريّة التي عالج بها النقّاد العرب أدبيّة النّصوص الشعريّة وجماليتها، فقد انطلق مندور من قناعةٍ مفادها أنه لا يمكن استيعاب النقد الأوروبي من غير التبحّر في نصوص التراث العربي واستكناه ما ورد فيه من الأنظار والمَبادئ.
وقد قُسّم الكِتاب الى جُزأين: تناول في الأول منهما تاريخ النقد الأدبي من ابن سلام الجُمَحي (757 - 846)، صاحب كتاب "طبقات فُحول الشعراء"، إلى ابن الأثير (1160 - 1233)، حيث توخّى مَندور مبدأ الدّراسة التطوّريّة لهذا الخطاب النقدي ومتابعة التحوّلات التي طرأت على رؤية العرب للجَميل من الكلام، متمسّكًا في ذلك بالتسلسل الزمني وترابط الرؤى النقديّة بعضها ببعض.
وخُصّص الجزء الثاني لموضوعات النقد ومقاييسه، مثل مفاهيم المُوازنة والسّرقات الأدبيّة وعمود الشعر الذي قُيّمت على ضوئه النّصوص وبها يُفاضل بين كلامٍ وكلامٍ، حيث كان البحث نسقيًّا لا تطّوريًّا سعى مندور من خلاله إلى إجلاء المفاهيم بصرف النظر عن تحوّلاتها في التاريخ.
لاحظ مراوحة التراث النقدي بين المنزع القيمي والنظر العقلي
وقد اعتمد في هذه الفصول والأبواب كلّيًا على مُدوّنة النقد العربي، فجعل نصوصَها هي التي تتكلّم، كما عدّد من الشواهد وأكثر الإحالات، مما جعل الكتابَ استعادةً شاملةً لأقوال القدامى مع مزيّة الرّبط بينها، حيث لم يَتناول كلّ واحدةٍ منها كما لو كانت حلقة مفردةً، منفصلةً عن سابقها ولاحقها. فلا شكَّ في تمكّن العرب، وبفضل نضج التجربة الشعريّة وعمقها لديهم، من تطوير نقد موضوعي قائم على جهاز متّسقٍ من المفاهيم الجماليّة وفهمٍ لوظيفة الأدب وصور البيان وفضائل العدول التركيبي وفرادة القول الشعريّ بما هو تخييل وإيهام.
وبالجملة، أظهر مندور أنّ للنقاد العرب نسقًا متكاملاً، تمكّنوا بواسطته من سبر أغوار خصوصيّات الأسلوب الأدبي وفَهم فرادة الشعر وتمايزه عن النثر اليوميّ الذي يشمل القدر الأوسع من كلام الناس، رغم تركيزهم على الموازنة بين الشعراء واتهام بَعضهم بالسَّرَق... وهكذا، بحث الكتاب، كما اقتضته روح العصر، عن المواءمة بين ما وصل إليه النقّاد العرب من تنظير الأقاويل الشّعريّة وما بلغه نظراؤُهم الأوروبيون بعد قرون، من دون تمجيد، لأنَّ غاية هذه الرسالة كانت الكشف عن إسهام النقد العربي لهذا الحقل المعرفي، إسهامٍ كان حلقة ضمن سلسلة كونيّة، لا ينبغي أن تغمَط أو أن تنسى.
اعتمد الدراسة التطورية لفهم ما طرأ على رؤية العرب للجمال
ولعلّ أصالة هذه الدراسة تكمن في وضع اليد على مراوحة التراث النقديّ بين المَنزع القيميّ وحتى الارتسامي، وبين التوجّه الثابت إلى النظر العقلي المقارن الذي تخلّص من القيود الانطباعية وارتقى بالنقد إلى ما يشبه القواعد الصارمة والمقاييس الواضحة. فقد برهن مندور على أنّ أنظار العرب كانت نافذةً، تخفّفت نسبيًّا من ثقل الأخلاق ومن تأثير الدين وأفادَت من التراث الإغريقيّ في غير ما خضوع فكريّ، بعد أن هُضمت الآراء الواردة فيه وانتُقدت، بل وتُجُوزت من أجل الوقوف على الخصائص الهيكليّة للأدب العربيّ الذي يتوفّر على سمات فريدة، منها التصاقه بالبيئة القبليّة والرحلة في مَهامِّه البادية، ومنها معايشته لعقيدة إعجاز القرآن.
مرّ اليوم أكثر من ثمانين عامًا على صدور الكتاب، ولا يَزال التّراث النقديّ العَربي في حاجة إلى إعادة قراءة وتَنسيق وتَعريف. فما كان في كِتاباتِهم لمحةً وإشارةً، يتطلّب اليوم توسيعا وتعميقًا، كما أنّ ازدهار العلوم الإنسانيّة، خلال العقود الأخيرة، وتطوّر مناهج النقد، قد يفتحان آفاقًا جديدة في استكشاف هذا التراث، تمامًا مثل ما فعل مَندور في عصره. دون أن يعني ذلك أنَّ الفكر النّقدي العربي لم يُنجز شيئًا منذ ذلك الحين، بل لعلّ الوقتَ قد حان لقراءة نصوصنا بغير مفاهيم الغرب، فلنا من الكفاءات ما يكفي للتأريخ له دون إسقاطٍ.
ذلك أنّ ما عانى منه هذا الكتابُ ثغرةً هو حضور نصوص الأدب الفرنسي مرجعًا لاواعيًا، قَيّم على ضَوئه صاحبُ "في الأدب والنقد" تراثَنا النقديّ، ممّا أوقعه في ضربٍ من الإسقاط التاريخيّ والهوس في جَعل النصوص القديمة ناطقةً بما وصلت إليه الألسنيّة ومَناهج النقد الغربيّة المعاصرة؛ إسقاطٌ سببُه عُقدة نقصٍ أو تفوّق بات لزامًا عَلينا أن نَكسرها اليوم وألا نقرأ عَبرها ما مَضى من نصوصنا. فقد انشغل القدماء بأدبية الكلام في سياق شفويّ، أساسُه القصيدة والمنثور الفنّي، في علاقتهما بأولية المَتن القرآني وسلطة الخُلفاء والفقهاء، ولا مَجال، والحال هذه، لمقاربة هذا النقد وفق قواعد المنهج الديكارتيّة. أليس الإسقاط التاريخيّ من أخفى أخطاء المنهج، التي تغيب حتى على النّبهاء؟
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس