أكثر من أسبوعين مضيا على رحيل ضياء البطل، وأنا أحاول أن أكتب بعض الكلمات، أستعيد كل يوم محادثاتنا الطويلة، تسجيلاتها الصوتية في أروقة المستشفى؛ مكان إقامتها المؤقت خلال أسابيع السنة المتقطعة. أمسك قلمي، أكتب كلمتين: "رحلت ضياء"، لا شيء آخر، أترك كراستي مفتوحة للغد. في الليل أكتب اسم غزّة مئات المرات وأستسلم للنوم أو الموت.
أعود بالذاكرة قليلاً نحو ضياء، الصديقة المقرّبة التي أسلمت نفسَها للمَوت بشجاعة، تاركةً مرض السرطان ينهش ما تبقى من جسدِها الرقيق وَهيَ تصرخ في وجهه: أريد أن أحيا.
ضياء التي أمضت أربعة أعوامٍ وَهيَ تحاول استيعاب فكرة أنها قد تموت في أية لحظة، في كل مرة كان الموت يقترب منها كانت تمنحه قطعةً من جسدِها علّهُ يتأخر قليلاً، في الأخير، أشهرَت صدرَها في وَجهِه وهمست: "خذني حيث الضوء".
أريد أن أبدأ باسمها وألّا أنام قبل أن أنهي هذا النص
قبل يومين من وفاتها، قبيل افتتاح معرض "مدن تحت الحجر" في "متحف" بالدوحة، المشروع الذي يحتفل بالحياة والحب والصداقة، فتحتُ كتابها، آخر أعمالها الفنية، بتأن وبكثير من الرقة بسطت صفحاته على بياض، التقطتُ صورة وأرسلتها لها: "يا ريتك هون"، لم تجبني. عبارة "أريد أنا أحيا" في الكتاب بخط يدها تكبر أكثر وأكثر... تقولها هي ويرددها خلفها آلاف الأطفال على وقع واحد في القاعة... أُغلق هاتفي، أخرج من القاعة لالتقاط بعض الهواء.
في كتابها هذا توثق ضياء بداية صمودها ومواجهتها لهذا العدوان، الخلايا السرطانية التي اجتاحت جسدها، تصوّر نفسها، تشريح مقطعي لهذا العالم السحيق داخل الجسد، تستخدم الكولاج، صورة "سلفي" خلف حاجز بلاستيكي، أوراق الذهب، خيوط تتخيل أنها تقطب بها ما بُتر وما أحدثه المرض من شقوق في الروح، تشخيصات طبية واقتباسات شعرية باللغة العربية.
"شيءٌ ما يشبه الأجرام السماوية يضيء بشكل جميل في قنوات ثديي الأيمن، وَقتَها حلَّ الكابوس فعلاً وَحطّمَ حياتي بشكلٍ عَميق". كتبت ضياء في مطلع نص صغير أرسلته ليرافق كتابها الفني، الذي لم تنتج غيره منذ عام 2019.
لم تَكُن أجراماً سماوية إذن، كان المَوتُ يلوِّح لها بِوَميضِهِ الأخاذ، وَهيَ تعاندُهُ بحُبّ الحياة أكثر فأكثر.
رحلَت ضياء تاركةً مشاهد من العذاب والشتات التي يعانيها أهل غزّة منذ الثامن من أكتوبر الماضي. عندما وصلني خبر رحيلها وأنا في مطار بيروت، رحت أحاول التعامل مع نوبات الخوف التي أصابتني لحظة دخول المجال الجوي اللبناني، ها أنا أقرب ما يمكن من الحرب... كنتُ ممتلئاً بمشاهد وأشلاء الأطفال على أبواب المستشفيات. فجأة وجدتُ نفسي أمامَ اجتياحَين، غزّة التي اجتاحَتها آلة الحرب الصهيونية، وَضياء التي اجتاحها المرض واختطفها في رحلة كرّ وفرّ دامَت أربعة أعوامٍ وانتهت بِهدوء مريب لم أعرف حتى اليوم تفسيراً له. هدوء يشبه إلى حدٍّ بعيد نوماً في أوّلِه.
في خضم كل هذا الألم كان عليها أن تتعامل مع الموت الذي كان يقترب منها أكثر فأكثر، يحاصرها كعاشق نرجسي. لم تتخطَّ ضياء خسارة والدتها منى، ولم تعش الحداد كما ينبغي. "اشتقت لماما يا عبد. عم بتذكر كيف كانت تجبلي لبنة وزعتر عالمستشفى، لليوم ما لقيت الفرصة إني إحزن عليها وعلى بابا، كتير غريب كل شي!"، قالت لي في آخر تسجيلاتها الصوتية.
مقتنع بألا شيء يحجب طواف الروح حول أحبائها
لقد بذلت ضياء هذه السنة كل ما يمكن للحفاظ على إرث والدتها، وكأنها كانت تشعر بأن الوقت ليس في صالحها وعليها أن تنقذ ما يمكن إنقاذه.. كانت أغلب محادثاتنا مؤخراً عن منى وإرثها. كنت دائماً أجيبها، وأنا المفتون بأعمال والدتها النحّاتة الرائدة والصديقة أيضاً منى السعودي: "اي، وفي شغلك ما بدنا ننسى".
ليسَ للموضوع علاقة بنكران الذات وَإنما حرصٌ على تلمُّسِ الجذور التي صنعَت إنسانةً بجمال وشجاعة ضياء. كيفَ لا وَهيَ ابنة فلسطين وفيها الكثير من قوتها وصمودِها. كيف لا وهي ابنة حسن البطل، الكاتب الذي ارتبط اسمه بمسارات ثورة فلسطين في مشوار تجاوز أربعين عاماً... ضياء التي كانت تقابل الظروف بابتسامةٍ كبيرة كانت تدرك ما تفعل. كانت تصفعُ وَجهَ المَوتِ بِيَد وَبِاليَدِ الأخرى تربت على رأسَي ولَدَيها، وَتشتغل بفنّها لِتوصِلَ رغبتَها المكتومة: "أريد أن أحيا".
لم أشعر يوماً خلال لقاءاتِنا بأنها على موعد مع المَوت، ضحكتها العنيدة، أمومتها المثالية، اعتدادُها بشخصيتها وأنوثتها، كانت كلما دقّ الألم بابَها يراها مشغولةً بالسعادة وَعَيش اللحظة، كأنها تقول له شامتةً: العنوان خطأ!
يصحّ القول في ضياء إنها اختُطِفَت خطفاً نحوَ حَتفِها، لم يَعُد هذا الجسد يحتمل المزيد من جرعات الكيماوي والحقن، خانَها وَسقَط وَهي بعد لم تحقق أمنِيَتَها، وإن هذه الروح لم تُزهَق، بل فاضَت على أرض المستشفى الذي باتَ عنوانَ إقامَتِها، لتضمَّ باتساعٍ ورحابة وَلَدَيها، اسمَ والدتها الكبير وكل من أحبوها. لا أظنها كانت تخشى المَوت بقدر خشيتها من ألا تَحيا بالمعنى الحقيقي للحياة. ربما لأنها عاشت الكثير من الحزن، من طلاق إلى مرض ثم فقْد والديها في سنة واحدة.
في ظلّ الجنون الذي يعبث بالعالَم، لا تنفك تراودني فكرة أن الإله ليس على دراية بما يجري على الأرض، لذا كان لا بدّ من بريدٍ مستعجل يحمله له ملاكٌ مثلَ ضياء. أعتقد أن ضياء رحلت يومَها لتوصلَ رسالةً مهمة إلى السماء: "نريد أن نحيا، لا لشيء إنما لنحترم القيامة بعد هذا الموَت". وَهيَ المولَعَةُ بشعر محمود درويش.
آخر صورة أرسلتها لي كانت لدفتر آخر جديد كنت قد أهديتها إياه لتباشر الرسم عليه وتوثق تجربتها ويومياتها، حتى الآن، ذيلت الصورة بما يلي: "أخيراً، بدأت بعد سبعة أشهر". الكتاب ما زال مفتوحاً بانتظار يدين تخطان عليه قصة ضياء وعائلتها المبدعة ومسيرتها الإنسانية والفنية التي تستحق الوقوف عندها.
أثناء تجوالنا في الشوارع، كثيراً ما كانت تستمهلني في المشي وأنا المستعجل دوماً، تعلمت معها حين زرتها في لندن قبل عامين وحين زارتني هي لأول مرة في باريس العام الماضي مرتين، كيف أسير ببطء. كانت تمازحني قائلة وأنا ممسك ذراعها: "ما بقدر أركض عبود". هنا بدأت أتمعّن في الأشياء حولنا أكثر لأعود وأتمعن في روحها أكثر. هنا تجلّت صداقتنا، هنا توّجت ضياء كشقيقة لي.. بشكل أكثر تمعّناً، كأنّ النظر لديها مختلف عن مفهوم التحديق والتشبّع بمعالم الحياة التي قد نفارقها في أي وقت. لقد كانت ضياء تدرك قيمة كل ما حولها وَهي المهدّدة بالغياب القسري، ولكن: تريد أن تحيا.
صبيحة يوم الجمعة الماضي، وورِيَ جثمان ضياء ثرى الأراضي الإنكليزية، وَلظروف متعلقة بمعاملات تأشيرة السفر لم أستطع الحضور، كالمحاصَر في بيروت، أنتظر الحرب والسلم، كي أغادر مطمئنّاً أن في حالة الحرب لن يضطر ابني الوحيد (الذي وللمفارقة، يتشارك وضياء تاريخ الميلاد نفسه) لعيش رعب ما عشته في طفولتي وحيداً. رغم غيابي، مقتنع بألّا شيء يحجب طواف الروح حول أحبائها. التقطنا الكثير من الصور سويةً..
دُفن هذا الجسد أخيراً.. دُفن هذا المختبر العضوي الذي أرهقته التجارب والحقن وآن له أن يصبح وردة بيضاء كروحها. هنا الآن كنت قادراً على الكتابة، هنا أنا مطمئن. أريد أن أبكي ضياء فقط هذه المرة، أريد أن أبدأ باسمها وألّا أنام قبل أن أنهي هذا النص.
أتساءل كيف يمكن لامرأةٍ ألبَسَت المرضَ أوراق الذهب والتقطت معه صورة حميمةً وَهوَ يعشّش في أكثر مناطق جسدها قدسية وحميمية أن تغيب؟ هل حقاً فناء الجسد بالنسبة لها كان نهاية الحياة أم بدايَتها؟ سؤال أنتظر أن تجيبني عنه ضياء يوماً ما حين نعاود اللقاء.
* فنان تشكيلي من لبنان
نصب الأطفال الشهداء
في 2015، أقامت التشكيلية والمصمّمة الفلسطينية ضياء البطل (1979 - 2023)، التي رحلت في الثامن والعشرين من الشهر الماضي، معرضاً بعنوان "مشهد التداول" في "موزاييك رومز" بلندن، استذكرت فيه أطفال غزّة الذين استشهدوا خلال العدوان الإسرائيلي صيف 2014؛ حيث طرّزت أسماءهم بأحرف عربية على قطعة قماش أبيض، ومنحت كلّ اسم لوناً. "المشربية"، وهو اسم العمل الفنّي، كان بمثابة نصب تذكاري لجميع أطفال فلسطين الشهداء.