طرابلس.. مدينة الآخرين

30 مايو 2024
جانب من أحياء مدينة طرابلس القديمة، 2018 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- هادي يعيش في "القفص" بطرابلس، لبنان، محاطًا بذكريات المدينة العريقة وأشجار البرتقال، يقضي وقته في القراءة ومع ببغائه، مستذكرًا تاريخ طرابلس المزدهر.
- طرابلس، التي تحولت من مدينة مزدهرة إلى "أم الفقراء" بسبب الإهمال والحروب، شهدت تغيرات جذرية في هويتها ومكانتها، مع ظهور مليارديرات وسط الفقر المدقع.
- في 2019، طرابلس تتبنى دورًا قياديًا في الحراك الثوري اللبناني، مطالبة بالعدالة الاجتماعية وإنهاء الطائفية، ما أعاد تسليط الضوء على أهميتها وضرورة إعادة دمجها في النسيج الوطني.

عاش هادي طيلةَ حياته هُنا، في طرابلس، أسفلَ وادي أبو علي. وكان يُسَمّي البيتَ الصغير الذي يتقاسمه مع بقيَّة أفراد أسرته: "القَفَص". هنا، تَقتصر حياتُه على بضعة أمتار مُربَّعَة، مُتداعية، تملأها كتبُ تاريخ وملابس، تُزيّنها نافذة بَسيطة، مشبَّكة.

عاطلاً من العمل، يقضي هادي أيّامَه في القراءة وملاعبة الببّغاء الصغير، القابع على كَتفه. يعتبره "رفيقَ سِجنِه".

كان هادي أوّلَ مَن فَتح عينيَّ على طرابلس، أثناء حَديثِنا، قربَ شَجرة البرتقال، المجاورة لنافذته التي كان يَهرع إليها. ذاتَ ليلة، شرح لي أنَّ هذه الأشجار مثَّلت فخرَ القرية، وأنه في أيّام الحُكم العثماني كانت تحتلّ كلّ البَساتين، وأنّ اللقاح المنبعث منها كان يملأ كلّ الطرقات خلال فصل الصيف، كما كان يعطِّر قِشرُها المُجَفَّف الأسواقَ ويُنقَعُ في مياه الشُّرب، إلى درجة أنّ طرابلس لُقِّبَت بـ"الفَيحاء" أي العَطِرَة.

أضاف هادي أنّ المَدينة كانت تحمل أسماء أُخرى، في ذلك الزمن، مثل: "مَدينة العِلم والعُلماء"، نظراً إلى مَدارسها التي لا تحصى، واسم "مَدينة التعايُش الإسلامي - المسيحيّ" الذي أطلقه قلمُ عبد الله غريب، في إشارة إلى وِئام دياناتها.

إلا أنّه بالنسبة إلى هادي، لم تكن هذه الألقاب سوى أصداء بَعيدة، عَرفتها شجرة البرتقال المُعَمِّرَة، قَبْلَه ودونه.

مدينة عُذّبت ونُسيت وتشوَّهت عبر قرنٍ من الزمن

لم تَعُد اليومَ طرابلس سوى المدينة - السّجن التي تَخنق "قَفَصه"، سجن لا يحتلُّ فيه شَجَرُ البُرتقال سوى بضعة أرصفةٍ حول المباني الثرية النّادرة، وحيث تُغلق المدارسُ الحكوميّة أبوابَها بسبب نَقص الإمكانات، مدينة عُذّبت ونُسيت وتشوَّهَت، فقط في قرنٍ واحدٍ من الزمن... وهذا هو عينُ مَصير أسمائها.


"أُمّ الفقراء"

كان محمّد، جدُّ هادي، شاهداً على ولادة لبنان. لكن لم يكن له أيُّ حَنين لحِقبَة "الانتداب" هذه، كما هو حال بعض الأجيال البيروتيّة حتى يومنا هذا. بالنسبة إليه، كانت ولادة لبنان، في الأساس، من مظاهر انحطاط المَدينة، ظهور هويّة مُتقاطعة عَذَّبت أُخرى. ففي عهد "الانتداب الفرنسي"، رُسمَ حدٌّ فاصلٌ بين دَولَتَين فَتِيَّتَيْن: لبنان الكبير حيث انطوَت طرابلس، وسورية التي أضحت "جارةً" على بُعْد بِضعة كيلومترات.

جرَّاءَ خطّ الحدود هذا، أن تكون طرابلسيّاً يعني أن تنتميَ إلى الهامش.

ينقسم داخلُ شمال لبنان الطبيعي إلى قِسمين، مع أنّه يمثّل أحد أهم بوّابات التجارة من الشرق إلى غاية العراق. وبالتوازي مع ذلك، فإنَّ جنوبَ سورية الخاضع "للانتداب" شجّع، آنذاك، على تطوير ميناء طرطوس لينافس ميناء طرابلس، الواقع على بعد مسافة لا تكاد تتجاوز ستّينَ كيلومتراً.

وُلد أوّل فُصول انحطاط المدينة من لُبنانيّته، ثم من قَدَرها كهامش، وهو ما استمرَّ بُعيْد الانتداب الفرنسي. انتهى لبنان الفتيّ إلى التشظّي خلال الحرب الأهلية التي استمرّت خَمسة عشر عاماً.

انقسمت طَرابلس إلى مناطق مسيحيّة عدّة تُحيط بها، وبَنَت هذه الأخيرة علاقات اقتصادية متينة، أقصت المدينةَ التي ستتجمّد في مرحلة ما بعد الحرب لتتركها أكثر انعزالاً. خلال مرحلة إعادة الإعمار، استَحوذت بيروت على أهمّ الأرصدة. وظلّت طرابلس تُعاني في ظلال العاصمة.

قريبة جدّاً من سوريّة حتى تكون لبنانيّة حقّاً، فهي عربيّة جدّاً، سُنّية جدّاً، بعيدةٌ جدّاً.

طرابلس2
من مظاهرة في "ساحة النور" بمدينة طرابلس احتجاجاً على الإغلاق التام خلال جائحة كورونا، 27 كانون الثاني/ يناير 2021 (Getty)

منذ سنوات مَضت، واجَهَ هادي جَدَّه قائلاً: منذ قرن، كُنّا نُطلق على طرابلس اسم "أُمّ الفقراء". وقد شَرح لنا الشيخ محمد أنَّ هذا الاسم لا يحمل المعنى الذي يتبادر إلى الأذهان، وأنّ اسم "أُمّ الفقراء" يُصوّر طرابلس كما لو كانت أمّاً تَعتني بأشدّ الناس عَوَزاً وتغذّيهم، هي أُمٌّ تحرص ألّا يُحطِّمَ العَوَزُ الكرامَةَ.

ولكن، في نَظر هادي الحالي، في عُنف الدولة اللبنانية المفلسة، "أم الفقراء" لا يعني سوى أنها أمٌّ تنجب البُؤس والفقراء.


"وكر الإرهابيّين"

ومع ذلك، ظهر في طرابلس نفسها العديد من مليارديرات البَلد. بعضهم شيّد إقامات تنتصب بكل غَطَرَسة، هُنا وهُناك، بين مُفتَرَقات البؤس، غالباً في غَرب المدينة، في طرابلس الأثرياء التي لم تَعُد تتركّز فيها كثيرٌ من الثروات، كما كان الحالُ سابقاً. فمنذ الأزمة الاقتصادية لم يعد تقسيم المدينة إلى "غرب محظوظ" و"شرق فقير" قائماً. إذ عانت جيوب الاختلاط الاجتماعيّ في الغرب، مثل منطقة المينا، هي الأُخرى خلال العَشريّات الأخيرة.

في سنة 2010، أصاب هجومٌ مزدوَج بسيارتين مفخّختين، قربَ مسجد "السلام"، منطقة المينا بصدمة بالغة. وكان هذا الهجوم الأكثرَ دمويّة منذ نهاية الحرب الأهلية، حيث فقد سبعة وأربعون شخصاً حياتَهم. في تلك الأيام، لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم. لكنّ البعضَ رأى فيه بصمات نظام بشار الأسد، في سورية المجاورة.

وفقاً للحدود، أن تكون طرابلسيّاً يعني أن تنتمي إلى الهامش

خلال هذه العُشرية، ستقترن طرابلس بالإرهاب أكثر من أيّ وقت مضى. وبينما تستعر الحرب على بعد بضعة كيلومترات، على الجانب الآخر من الحدود، تنشط خلايا "داعش" في شمال لبنان.

"مدينة الفقراء" أرض خِصبة للجَماعات المتطرّفة الصغيرة، أصبحت "وكراً للإرهابيّين"، حيث صارت العديد من وسائل الإعلام الوطنية تربط طرابلس بانعدام الأمن والأسلحة والمآسي.


"عروس الثورة"
 
في سنة 2019، وبينما كان لبنان ينحدر إلى أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه، احتلّت طرابلس صدارة المدن الأكثر نشاطاً خلال حراك الثورة. وكان هذا الحراك مُدهشاً جدّاً بالنسبة إلى سائر المناطق اللبنانية التي استمرّت في رؤية المدينة من خلال منظور أوهامها. كانت المطالب هنا هي ذاتها التي في بيروت: المزيد من العدالة الاجتماعية، إنهاء الطائفيّة ورحيل كبار الزعماء الفاسدين. ورثت طرابلس، الأكثر قوّة وتطرُّفاً من المدن الثائرة الأُخرى، لقباً أخيراً: "عَروس الثورة".

وعندما استنفدت العاصمة قوّتَها في الأشهر الأولى من عام 2020، عادت الاحتجاجات من جديد مع أعمال الشغب بسبب الجوع في طرابلس. كان القمع هناك أعنف وأعتى، ربما لأنّ انتفاضة طرابلس كانت تُهدّد بشيء أكبر. فقد اتّسعت فجوة عدم المساواة التي تفصل المدينة عن بقية البَلَد، واحتدمت آثارُها جرّاء تفشّي الطائفية والمحسوبية لدى النُّخب اللبنانية. يُشكّل هذا الانقسام، الذي هو شرط الحفاظ على الجماعات الطائفية في السلطة، أكبر تهديد له وهو قدرة مُدن، مثل طرابلس، على التفكير في نفسها كلبنانية، كأيّ مدينة أُخرى. وكم تثور ثائرة أمراء الحرب السابقين، في المنطقة، عندما يُسرق مخزونهم من الأصوات لصالح مجتمع سياسي!

في أيّام إنشاء لبنان الحديث، كانت عناوين الصحف العربية تتحدّث عن "زفاف بيروت إلى جبل لبنان"، كزواج عاصِمة مُتاحة بدولة جديدة. وكصدى لهذه القصة، بَدت "عروس الثورة"، سنة 2019، وكأنّها زواج طرابلس مع بقية لبنان الذي أخضعها مثل جَيب منفصلٍ...

لكنّ العروس، والتي كانت بالضّرورة خاضعةً، أُهْدِيت لمن كان يلحظها على هذا النحو. وفي نهاية المطاف، لا يقول هذا الاسم شيئاً يُذكَر عن المدينة بقدر ما يروي قصة أولئك الذين يطلقون هذا الاسم. الذين ظلّوا، على مدى قرن كاملٍ، يُسمُّونها ويطلقون عليها اللقب تلو الآخر، من تلك الجيوب البعيدة لِلُبنان المُجَزَّأ والطائفي.

ومع ذلك، يُخبرنا التاريخ أنّ طرابلس ليست مجبرةً لا على إثبات لُبنانيّتها ولا على تمزيقها، لكنّ "اللُّبنانية" ستظلّ دائماً ناقصة ما لم تتّحد مع طرابلس.

على لبنان أن يتوقّف عن بتر طرابلس من جسده، 
"مدينة الآخرين" الأبديّة، 
روحٌ على هامش الوطن، 
تلك التي نراها من بعيد، نحن الذين لسنا هناك، 
والتي تنتظر أن تروي قصّتها بذاتها. 


* كاتب وصحافي لبناني يكتب بالفرنسية، والنص خاص بـ"العربي الجديد"، ترجمه نجم الدين خلف الله

المساهمون