تُعتبر أسرة الجابري من أشهر الأُسر الحلبية التي برز منها شخصيات كثيرة في القرون الأخيرة في مجال الفقه والفتوى والفكر والاقتصاد والسياسة. وتعود هذه الأسرة إلى الشيخ أحمد الجابري (توفي عام 1770)، مفتي حلب ونقيب الأشراف الذي كان أوّل من كُني بالجابري نسبةً إلى جدّه القاضي العثماني جابر بن أحمد الحلبي. وكان من أعلام هذه الأسرة الشخصية المخضرمة عبد الحميد الجابري، الذي عايش أربعة عهود متلاحقة: العهد العثماني، والفيصلي، والانتداب الفرنسي، والاستقلال المتبوع بالجلاء في 1946.
في تلك الفترة التي برزت فيها هذه الأسرة، كانت حلب مركز التجارة الدولية بين الشمال والجنوب (مع قافلة الحجّ)، وبين الشرق والغرب (طريق الحرير)، كما كانت مركزاً للولاية التي امتدّت إلى عمق الأناضول، وكانت أقرب في فكرها ومطبخها إلى إسطنبول من دمشق. ولكنّ حلب عانت كغيرها من الحرب العالمية الأولى وتلقّت بصدر رحِب الأرمن الذين استقرّوا فيها خلال ترحيلهم، واستقبلت بحماس الأمير فيصل في نهاية الحكم العثماني ومُثّلت في المؤتمر السوري بعبد الحميد الجابري وغيره، حيث أُعلن في هذا المؤتمر استقلال سورية (8 آذار/ مارس 1920) وانتخاب الملك فيصل ملكاً على رأس نظام ملكيّ مدني نيابيّ.
كان عبد الحميد الجابري (1864-1951) فقيهاً وشاعراً وكاتباً في الموضوعات الفكرية التي شغلت النخبة من إسطنبول إلى القاهرة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأوّل من القرن العشرين، كالإسلام والمدنية وتحرير المرأة وحقوقها السياسية. ولكنْ بالمقارنة مع غيره، كان الجابري وحيدَ عصره، الذي كثرت فيه المدارس والمعاهد والكلّيات، حيث أنه درّس نفسه بنفسه وتبوّأ مكانةً في الفقه والقانون والشعر حتى شغل منصب عضو محكمة الاستئناف وانتُخب عضواً في المؤتمر السوري 1919-1920، كما أصبح عضواً في "المجمع العلمي العربي" الذي تأسّس في 1919 (حالياً "مجمع اللغة العربية" بدمشق).
تعكس مؤلّفاته النقاشات التي شغلت جيله في إسطنبول ودمشق
في ما يتعلّق بمؤلّفاته الفكرية، يُلاحَظ أنها كانت تعكس التفكير والنقاش الدائر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في إسطنبول والنصف الأول من القرن العشرين في إسطنبول وحلب والقاهرة ودمشق. ففي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ظهرت في إسطنبول ردود أفعال على كتابات بعض المستشرقين الذين ربطوا بين الإسلام والتخلّف الحاصل في العالم الإسلامي، ومن ذلك ما عرضناه سابقاً من مؤلّفات شمس الدين سامي (1850-1904) والأمير سعيد حليم (1865-1921) الذي أصبح لاحقاً صدراً أعظم خلال 1913-1917.
"الإسلام القائم على طاعة الإمام"
كان الجابري يُجيد التركية ويكتب فيها، بالإضافة إلى العربية، ولذلك كان يتابع الإسهامات الجديدة في إسطنبول حول الإسلام والتمدّن، وهو ما اختاره موضوعاً لكتابه الأوّل: "مبدأ في ارتباط التمدّن بدين الإسلام"، الذي صدر في بيروت عام 1903. وفي هذا الكتاب نجد الجابري، مثله مثل شمس الدين سامي والأمير سعيد حليم، يؤكّد على ارتباط الإسلام بالتمدّن، ولكنّه يؤكد في مقاربة مختلفة أن التأخُّر حصل نتيجةً لابتعاد المسلمين عن الإسلام كما يفهمه هو. وهكذا، يؤكّد أوّلاً على "أن المثابرة عليه (الإسلام) وعدم الخروج عن شيء من أحكامه هو الداعي إلى كمال التمدّن"، بينما يُعيد التأخُّر إلى "أن الملّة الإسلامية بحسب عدم رعايتها تمام التمسّك بنظامها طرأ الخلل في تمدّنها". ولذلك يؤكّد على ضرورة الالتزام بالإسلام "القائم على إطاعة الإمام"، ممّا كان يصبّ في صالح السلطان عبد الحميد الثاني، الذي كان يروّج للخلافة بعدما جمّد العمل بدستور 1876 وفضّ البرلمان العثماني الأوّل في 1878.
ربط بين ممارسة الدين وفهمه وبين الانفتاح على التمدُّن
ومن ناحية أخرى، نجد النزعة المحافظة لديه تبدو في مسألة الرقّ وموقف الإسلام منه، بعدما كانت الدولة العثمانية منعت العبودية والمتاجرة بالعبيد في منشور رسمي قُرئ في مكّة عام 1855 وأثار سخط تجّار مكّة فحرّضوا على الخروج ضدّ الحكم العثماني، ممّا أدّى إلى قتلى وجرحى قرب الحرَم المكّي. ففي هذه النقطة، يُقرّ الجابري أن الإسلام أجاز الرقّ "على الأسير الحربي لمقتضى فنّ السياسة"، ولكنّه يذهب بعيداً في القول إن "قضيّة الرقيق من مستلزمات إعمار الكون الذي يقوم على خدم ومخدومين... حتى أننا نرى كثيراً من الأحرار المتوطّنين الأهليّين يتمنّون أن يكونوا أرقّاء لبعض الأغنياء ليتمتّعوا بما لم تطله يدهم" (ص 38).
الإفراط في المغالاة والتساهل بين المسلمين
ولكن من ناحية أخرى، نجد الجابري منفتحاً على التقريب بين أهل السنّة المؤيّدين للخلافة الحميدية والحركة الوهابية التي لم تكن تعترف بهذه الخلافة، وهو ما خصّص له كتابه: "دعوة المتديّنين لتلافي الانشقاق في الدين". وهكذا ينطلق في هذا الكتاب بدعوته للتوفيق بين الطرفين "لأنّ تعصّب فرقة على أُخرى مخالِفة ومجاهرَتها بالعداء يجعل في المخالفة تعصّباً يقابل ذلك التعصّب... حتى لا يبقى إلّا السيف في حين إمكان المجادلة بالتي هي أحسن والتقرّب بالتحابب". وفي هذا السياق يثني على الوهابيين لرفضهم "الكثير من الأباطيل والخرافات التي ليست من الدين في شيء"، ولكنّه ينتقد اعتقادهم في أن "كلّ مَن لم يذهب إلى ما ذهبوا إليه... هو مارقٌ على الدين"، حتّى "أن تعاليمهم تَصِمهم بأنهم أعداء الإنسانية يعملون على محو العالم أو أعداء المسلمين يرومون محقهم"، لكي يصل إلى القول بأنهم "مُغالون مفرطون كما نحن متساهلون مفرطون".
أمّا الموضوع الثالث الذي انشغل فيه، فكان مشاركته في الردود على كتاب قاسم أمين: "تحرير المرأة"، الصادر عام 1899 والذي أدّى إلى تأليف العديد من الكتب ضدّ ما ورد فيه عن حجاب المرأة المسلمة بكونه ليس من الإسلام. وفي الكتاب الذي ألّفه، "شرح كتاب المرأة الجديدة لقاسم أمين"، نجده يُخالف قاسم أمين ويؤكّد على أنّ "حجاب المرأة المسلمة يجلب لها كثيراً من الفوائد".
ولكنّ تجربة الجابري في المؤتمر السوري ــ الذي شهد خلال نيسان/إبريل وأيار/ مايو 1920 نقاشاً عنيفاً حول تضمين الدستور السوري الجديد ما يحفظ للمرأة الحقّ في الانتخاب ــ تطوّرت لاحقاً مع الانفتاح الذي حصل في المجتمع السوري بعد الاستقلال، حيث كانت سورية من بين أولى الدول العربية التي تمنح الحقّ للمرأة أواخر أربعينيات القرن الماضي ومطلع الخمسينيات، "شرط أن تكون متزوّجة ومتعلّمة". وقد تجدّد النقاش حول هذا الموضوع خلال الإعداد لدستور 1950 بين المسلمين المتنوّرين والمحافظين؛ نقاشٌ انتهى إلى التوافق على إطلاق الحرّيّة للنساء في الانتخاب، وهو الأمر الذي وافق عليه الجابري قُبيل وفاته (1951)، ممّا عكس انفتاحه على مستجدّات العصر الذي أصبحت فيه المرأة السورية رائدةً في هذا المجال. وللأسف، تحلّ الآن الذكرى السبعون لوفاته دون أن نجد مَن اهتمّ بالشاعر والكاتب عبد الحميد الجابري، الذي تستحقّ مؤلّفاته المطبوعة والمخطوطة أن تُنشر مع دراسة عنه تكشف دوره في الحياة الثقافية والفكرية السياسية في حلب، من الحكم العثماني إلى الاستقلال الثاني عن الانتداب الفرنسي.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري