عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثاً كتاب "الخطاب القرآني وأسرار التلقي" لأستاذ اللسانيات والباحث التونسي عبد السلام المسدي.
الكتاب محاولة للإجابة عن السؤال: كيف يتلقّى الإنسانُ القرآن وهو يتلوه أو يُرَتّله؛ فلئن كان علم التفسير قائمًا على استنطاق النص القرآني بالشرح والتأويل، فإنّ هذا الكتاب يحاول أن يُعيد استنطاق "كتاب العربية الأكبر" كما يتلقّاه القارئ بالفطرة من دون أن تكون له دراية بعلوم القرآن؛ لذلك جرت معالجة النص على أساس ما يدور في خاطر قارئه عندما يتلقاه؛ علمًا بأن لحظة التلقّي تختلف عند القارئ الواحد من زمن إلى آخر فضلًا عن اختلافها من قارئ إلى آخر، وهذا ما يقود المؤلّف إلى صياغة مفهوم منهجي في دراسة النص المقدَّس سمّاه "الذاكرة القرآنيّة" بناءً على أنّ التمثّلات الأولى لكل قارئ تظلّ تصاحبه حتى ولو تخصّص في علوم القرآن بعد زمنه الأول، من هنا يتناول المؤلّف ما يختزنه الإنسان من دلالات قرآنية انطلاقًا من الحيثيات التي تحفّ بلحظات "التلقّي".
عندما نؤكّد أنّ للقرآن تجلّيات تتعدّد وتتنوّع بحسب التجربة الفردية، فإننا نتّجه صوب العلاقة النفسية الأليفة التي تنشئها الأيام بين الكائن الفرد والنص القرآني، وهذا لا ينالُ أبدًا من قدسية الجوهر الأوحد الذي به يكون القرآن قرآنًا، وبه يكون كتابًا سماويًّا بكل ما في هذه العبارة من مغزى كثيف يكاد يضيع على ألسنتنا لكثرة ما نردّدها، ولكثرة ما يردّدها حولنا الذين يستعملونها في سياق الإلماح إلى أن القرآن ليس هو الكتابَ السماوي الوحيد، بحسب الكتاب.
ويوضّح المؤلّف إلى أنه جرت العادة أن نأخذ القرآن وهو في الصورة التي نتمثلها نهائية، نقرؤه أو نستحضره، نستشهد به أو نرتّله، هو دائمًا النص المقدَّس التام، هو الجاهز الأكمل، هو الجوهر الأمثل وقد استوفى أشراطه المتعالية، هو المتسامي في ذاته وهو الأسمى في وعينا، ليس لتعاليه زمن سابق وزمن لاحق. هكذا تقتضي العادة وتَحكم الألفة فتستجيب الأعراف لتُرَسّخ ذاك الإحساس في أعماق نفوسنا ترسيخًا.
وفي إجابته عن سؤال: هل من موجِب للتذكير بواحدة من أمّهات القضايا التي أثّثت تاريخ "الفلسفة" الإسلامية؟ يستعيد المسدي موضوع "صفات الله" وهي صفات قائمة في ألوهيّته، حيث كان السؤال: هل يجوز تجريد الصفة من الموصوف فنقولَ: بما أن الله قادر فإن صفة القدرة من لوازمه، وإذا هذا المبدأ اللغوي الاشتقاقي يَفتح بابًا لم يكن أحد في العهد الأوّل من الإسلام يتخيّل أبعاده؛ فقد بدا لبعضهم أن القول ينجرّ عنه ما هو أقرب إلى الشرك إذ يؤدّي القول باستقلال الصفات عن الموصوف إلى لزوم اعتبارها "قديمة" كقِدَم موصوفها، وإذا بالصفات تشارك موصوفها في القدم وهذا عين الشرك، ومن هذا كلّه انبثق علم الكلام حين كان الجدل يدور على فعل "الكلام" من حيث هو صفة تجسّمت في "القرآن" الذي ما هو إلا كلام الله: وتكاملت يومئذ عناصر "الميلودراما" الكبرى، وبلغت أوجها مع الخليفة المأمون وتجسّمت في السؤال الذي يتحدّد بالجواب عنه مصير كيان الأفراد والجماعات: هل القرآن قديم أم حادث؟ كما رأينا تفصيلَه لغير هذا المقصد.
يُذكر أن المسدي أستاذ اللسانيات وتحليل الخطاب في "الجامعة التونسية"، ويتناول في مؤلّفاته قراءة التراث بمنظار اللسانيات، وعلم المصطلح، وتحليل الخطاب الأدبي كما يعالج الخطاب السياسي. صدر له عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتب "الهُويّة العربيّة والأمن اللغويّ"، و"آليّات الفكر وسؤال السياسة في تجليات الحداثة العربية"، و"مراجعات في الثقافة العربيّة".