في ورقته التي حملت عنوان "ثقافة العرب بين حقلَي دراسات الشرق الأوسط والفكر العربي المعاصر: هل الجوهرانية الثقافية ونقد التراث وجهان لعملة واحدة؟" وقدّمها اليوم ضمن الدورة التاسعة لـ"مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، أشار الباحث المغربي عبد الكريم أمنكاي إلى أنه، حتى الخمسينيات، لم تكن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (أو ما كان يصطلح عليه آنذاك بـ"الشرق الأدنى")، سوى موضوع ثانوي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية الغربية، وعلى وجه الخصوص في الجامعات الأميركية التي عرفت نشأة علم السياسة كحقل معرفي مستقل.
وقبل ذلك العقد كان المرء إذا أراد أن يجد متخصّصاً غربياً في دراسة الدوائر السياسية في المنطقة، عليه الاتجاه صوب برامج التاريخ أو الأنثروبولوجيا أو الدراسات الشرقية وحتى اللغات الشرقية في مَن يُوصفون أو يوضعون تحت المظلّة الواسعة للمستشرقين، والذين أثّرت أعمالهم وتصوراتهم في الأبحاث الأولى بحقل سياسات الشرق الأوسط، والذي بدأ يتبلور رويداً رويداً في ستينيات القرن الماضي، كمجال بحثي يقع في تقاطُع بين حقلَي السياسة المقارنة والعلاقات الدولية، مع تزايد اهتمام صانع السياسة الخارجية الأميركية بالمنطقة؛ انطلاقاً من اللحظة المفصلية التي شكّلها العدوان الثلاثي على مصر (1956)، وما تلاه من تدخّل متزايد للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة.
اعتبر الأميركيون الثقافة العربية مدخلاً لفهم السياسات
وأوضح، أمكناي، أنه في هذا الصدد، اعتُبرت الثقافة العربية وخصوصياتها أحد المداخل المهمة التي اعتمدها المتخصصون الأميركيون الأوائل لفهم ظواهر السياسة في العالم العربي، من الدولة إلى السلطوية إلى الصراع العربي الصهيوني، فما يُصطلح عليه بالمقاربة الثقافية في علم السياسة، كانت وما تزال أحد أهم الأدوات التحليلية المعتمدة في حقل سياسات الشرق الأوسط؛ رغم النقد الشديد الذي تعرّضت له منذ الثمانينيات حتى بين الدارسين الأميركيين، حيث أن هذه المقاربة الثقافية عرفت حركات مدّ وجزر في مدى هيمنتها على هذا الحقل الأميركي النشأة، وما لبثت أن استعادت قوتها في أعقاب سقوط المعسكر الشرقي في مطلع التسعينيات بفعل أعمال علماء سياسة بارزين مثل صموئيل هنتغتون وأطروحته حول صراع الحضارات، وكذلك في خضم تداعيات هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر.
ورأى أمنكاي أن المقاربة الثقافية وجدت في شرح الظواهر السياسية في المنطقة، بعضاً من أشد نقادها بين الأكاديميين العرب، حيث نُظر إليها على أنها لا تخلو من الجوهرانية والمركزية الغربية بل حتى العنصرية، ولكن إذا كان المفكرون العرب رفضوا بشدّة أطروحة هنتنغتون وما شابهها من التصورات الاستشراقية حول شعوب المنطقة، برزت مقاربة ثقافية تفسيرية محلية النشأة جعلت من التراث الثقافي أحد المداخل في تشخيص الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت ولا تزال تشكّل منظوراً مهماً.
المقاربة الثقافية تنامت بعد سقوط المعسكر الشرقي
وسعى الباحث في ورقته للإجابة عن التساؤل التالي: إلى أي حد يمكن اعتبار أطروحة نقد التراث النافذة في الفكر العربي مجرد صياغة محلية للنظرة الجوهرانية لثقافة العرب عامة، والسياسية منها خاصة، التي نجدها عند أصحاب المقاربة الثقافية في حقل دراسات الشرق الأوسط؟ وهل مفاهيم التراث والعقل العربي والخصوصيات الثقافية العربية التي شاع تداولها في كتابات المفكرين العرب المعاصرين بتعدّد مقارباتهم الإبستمولوجية وانحيازاتهم الأيديولوجية مجرّد صدى لمفاهيم العقلية العربية والتفرّد الثقافي المتداولة في حقل سياسات الشرق الأوسط؟
وتوقف أمنكاي في معالجته عند محورين: الأول يعاين الطريقة التي تمّت بها مفهمة الثقافة العربية في حقل دراسات الشرق الأوسط، والثاني يستعرض الكيفية التي تمّت بها مشكَلة مفهوم التراث الإسلامي كعامل ثقافي مسؤول عن "الانحطاط" في المنطقة عند المفكرين العرب المعاصرين البارزين الذي تبنوا أطروحة نقد التراث.
وطرح سؤالاً حول اعتماد الثقافة السياسية كمتغير تفسيري للظواهر السياسية في الأكاديمية الغربية وخصوصاً الأميركية، منذ الأعمال الأُولى لماكس فيبر ومنها عمله المرجعي "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، موضحاً أن مفهوم الثقافة السياسية لاقى انتقادات لم يسلم منها حتى داخل الجامعات الأميركية، حيث اشتركت الكتابات ذات النظرة الجوهرانية للمنطقة العربية في ثلاث خصائص، أولها أنه يمكن التعرف على ثقافة العرب من خلال تحليل نصوصهم: القرآن والسيرة النبوية والكتابات التاريخية، وثانيها الهوس بالقدرة التفسيرية للإسلام كعنصر ثقافي مركزي في مقاربة قضايا التنمية والطائفية والصراعات الداخلية والدولة الريعية، وثالثها مركزية سؤال الثقافة السياسية أو كيف يفسر لنا الإسلام والقيم الإسلامية قبول أو رفض الديمقراطية.
رفض العرب أطروحة هنتنغتون باستحالة ديمقراطية عربية
وبيّن أن هناك ثلاثة مواقف أساسية في دور الثقافة كعنصر تفسيري للسلوكات السياسية والظواهر السياسية في المنطقة، هي: الموقف الجوهراني الذي يعتبر ثقافة العرب مسؤولة عن كل مشاكل المنطقة، والموقف المتشكّك أو الرافض للتفسير الثقافي، وموقف الثقافيين "الجدد" الذين دون أن يقولوا أن الثقافة هي العنصر المفسّر الوحيد، رأوا أن الثقافة مهمة إلى جانب عناصر أخرى.
في المقابل، أشار أمنكاي إلى أنّ المثقّفين العرب عامة رفضوا أطروحة هنتنغتون والأطروحات الغربية القائلة باستحالة قيام ديمقراطية في المنطقة العربية، مع بروز مقاربات حول إشكالية التراث العربي الإسلامي بشكل مغاير عن النظرة الاستشراقية للوقوف على مكامن الخلل وإمكانية تجاوزه.