أين نحن اليوم، كعرب، من الدولة كمفهوم وكظاهرة نحتكّ بهما بشكل يوميّ؟ لعلّه سؤال ظلّ مُفلتاً إلى حدّ كبير من ثقافتنا لعدة أسباب، منها تفاوت "تدخّل" الدولة في حياة المواطنين، من الحضور المبالغ فيه في بعض وجوهها إلى الغياب المريب في وجوه أخرى. وعلى مستوى آخر، يقف الدارس العربي - حين يتصدّى للدولة كمبحث نظريّ - على تراث غربيّ ضخم، لا يمكنه إغفاله غير أن العبور منه قد يكون سبباً في خلق "غشاوة" عن الدولة كوضعية عينية في الفضاء العربي. وفي المحصّلة، نحن أمام قصور في الإنتاج النظري حول الدولة يستدعي انتباه بيئة البحث العربية.
قدّم المفكّر العربي عزمي بشارة نظرة على الإشكاليات العربية في التعامل النظري مع الدولة، في محاضرة بعنوان "الدولة والأمّة ونظام الحكم: التداخل والتمايز" ألقاها أوّل من أمس الأحد في افتتاح الدورة الثامنة لـ"مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية"، وأضاء ضمنها شبكة من المفاهيم التي تتفاعل مع "الدولة" مؤكّداً على ضرورة التخلّص من الانغلاق المنهجي في التعامل مع الظواهر الاجتماعية الحيّة. يحتاج فهم "الدولة" اليوم إلى تناول مَرنٍ وعابر للمقاربات وإلا بقيت مفلتة من بين أصابع الباحثين ومتعالية على أجهزتهم النظرية.
ينطلق المفكّر العربي، في محاضرته، من إشارة إلى وجود "دعوات للباحثين تنتشر موسمياً للاهتمام ليس فقط بالدولة وبنيتها ووظيفتها، بل أيضاً بنظريّاتها". وهو يرى أنّ "هذه الدعوة تنطوي على نبرة ناقدة، فكأنّها تُشير إلى فقرٍ نظريّ في ما يتعلّق بنظرية الدولة". وهنا يلفت إلى عبارةٍ راجت في وقت من الأوقات، يصفها بأنها "عبارة مُرسَلة لا تخلو من مبالغة"، مفادها أنّ "ما ينقصنا هو نظرية في الدولة".
ليست الحصريّة النظرية مفيدة في فهم ظواهر اجتماعية مركّبة
يعتبر بشارة أنّ من الضروري تناول مسألة الدولة، والإشكاليات التي تتفرّع منها، بعيداً "عن التنافر أو الإقصاء المتبادل بين مختلف النظريات الرائجة حولها"، ويبدأ بـ"المقاربة الماركسية التي ترى أنّ أصل الدولة يكمن في الحفاظ على المُلكيّة الخاصة، وأن الدولة الحديثة نشأت مع النظام الرأسمالي تحديداً، بوصفها أداةً لتدبير مصالح الطبقة الرأسمالية وقمع الطبقات الأخرى".
مقابل ذلك، تحصر "المقاربة الليبرالية الحاجة إلى الدولة في الحفاظ على السِّلْم الاجتماعي بوصف التجاوزات على حرية الناس وملكيتهم الخاصة حالاتٍ استثنائية، لأنّ القاعدة أن المجتمع ينظّم نفسه من دون دولة، ومِن ثمّ يجب مقاومة تمدُّد وظائف الدولة وأجهزتها على حساب آليات التنظيم الذاتي للاقتصاد والمجتمع" بحسب تعبير صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا".
كما يذكُر المفكّر العربي المقاربة المؤسّسية التي اقترحها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، ويرى بشارة أنّها النظرية التي ذهبت إلى أعلى مستوى من التعميم، باعتبارها "تتعامل مع الدولة بوصفها كياناً حديثاً قائماً بذاته، ولا تُعنى بنشوء الدولة بل ببنيتها الأساسية ووظيفتها، ولا سيما استقلالية البيروقراطية وعقلانيتها".
وأخيراً يشير إلى المقاربة القوميّة التي "ترى الدُّوَل تعبيراً عن تطلّع الأمم إلى حُكْم ذاتها في صيغة الدولة - الأمّة". ويستطرد بالقول: "هذا إذا استثنينا مقاربةَ فلسفة التاريخ المثالية، وأوج تعبيرها عند هيغل، وهي النظرية التي تَعتَبِر الدولة نتاج مسيرة التقدّم التاريخي المتداخل مع العقلنة، ومن ثم فهي تجسيد لمفهومها العقلي. وهكذا يصبح التفاوت والتنوّع بين الدول عبارة عن ابتعادٍ عن هذا المفهوم واقترابٍ منه".
يرى بشارة أنّ بعض هذه النظريات ينجح في تفسير نشوء الدُّوَل في أوروبا لا أكثر، وبعضها الآخر ينجح جزئياً في تفسير وظيفتها، مؤكّداً أنّ "أيّة محاولة نظرية جدّية في فهم الدولة تحتاج إلى تضافر هذه المقاربات وغيرها. فليست الحصرية النظرية مفيدة في فهم ظواهر اجتماعية مُركّبة ومتغيّرة ومتطوّرة باستمرار". يضيف: "وقد يقود الإصرار على مقاربة نظرية واحدة لفهم منشأ الدولة وبنيتها ووظيفتها وطابعها وعلاقتها بالاقتصاد والمجتمع والثقافة، وتأثيرها وتأثرها بهذه العوامل، إلى تحويل النظرية إلى أيديولوجيا".
نظريات الدولة السائدة تنجح في تفسير ظواهر في أوروبا فقط
يلفت بشارة لاحقاً إلى ضرورة التمييز بين الدولة ونظام الحكم، فـ"توصيفات مثل 'ديمقراطية' أو 'شمولية' لا تخصّ الدولة ولكنْ أنظمة الحكم فيها، وحين نتحدّث عن دول رأسمالية أو نامية فنحن نتحدّث عن طبيعة اقتصاد تلك الدول".
يقول: "الدولة، بما هي دولة، وعلى هذه الدرجة من التجريد، ليست ديمقراطية، إلّا بمعنى أنّه يسود فيها نظام ديمقراطي، ولا معنى آخرَ لهذا الوصف من ناحية نظرية الدولة بما هي دولة". ويشير إلى معنى آخر للدولة الديمقراطية، يتلخّص في "أنّ النظام الديمقراطي يُعيد تشكيل مؤسّسات الدولة، كالبرلمان، والحكومة، وجهاز القضاء، لتصبح مؤسّساتٍ ديمقراطيةً، وهو أحد معاني 'دولة ديمقراطية'". ومن ثمّ يستدرك: "لكنّنا نفصل بين المفهومين ــ الدولة والنظام الديمقراطي ــ في هذه الحالة، لكي نتمكّن من فهمِ مركّبِ الدولة الديمقراطية".
ويوضّح بشارة: "صحيحٌ أنّه لا يمكن تصوّر الدولة من دون نظام سياسي، ومن دون سكّان، ومن دون طبيعة جغرافية، ومن دون منشأ تاريخي. ولكنْ ثمة مؤسّسات بيروقراطية تدخل ضمن أيّ تعريف للدولة. ففي ما عدا المصطلح المجرّد، 'دولة'، الذي يفيد بدلالات مثل السيادة والشرعية، ويمثَّل باسمٍ ورمزٍ وعلَمٍ ونشيد وطني وسرديّة رسمية للتاريخ تتجسد في مناسبات وأعياد وطنية وطقوس، وما إلى ذلك، ثمة مؤسّسات، ثمة كيان للدولة بالمعنى الضيّق. ولكنْ، هل هو من الغِنى والتركيب والسّماكة إلى درجة أنّه يمكن أن يُفسَّر نظرياً، باستقلالٍ عن النُّظم السياسية والمجتمعات؟".
ويقول صاحب كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" إنّه "من الأهمية بمكان أن نبحث في الدولة، ولكنّني أنصح بتجنّب الغوص في مناقشة اللفظ بوصفه مدخلاً للفهم - وهو أمرٌ رائج - فنتائح البحث فيه غير مثمرة". ويشير بشارة إلى أنّه قد جرى اعتماد لفظة الدولة في وضعيات شتّى في ثقافتنا العربية منذ ابن خلدون، ضمن معانٍ لم تعد تدلّ على شيء اليوم لدى مواطن عادي، كنماذج الدول التي كانت تُسمّى ضمن صيغة 'دولة بني فلان'، أيّ الدول القائمة على عصبيات، ولا نجد لها اليوم حالات متجسّدة باستثناء حالة السعودية، ملاحظاً أنّ بقية الدول العربية لم تقم على مبدأ العصبية. والمفارقة التي يرصدها بشارة هي أنّ هذه الدول هي التي بحثت عن إنتاج عصبيات في خضمّ صراعها من أجل ترسيخ حكمها.
ينبّه المفكّر العربي أيضاً بخطأٍ آخر في الاعتماد على البحث في "الدولة" من منطلق الفهم اللغوي، حين يذهب بعضهم إلى أنّها تحيل إلى معنى التحوّل (انطلاقاً من جذر دال، يدول) مقابل لفظة State التي تحيل، على العكس، إلى السكون والثبات، وهو ما جعل البعض يعتقد أن هذا الفارق اللفظي هو فارق أيضاً بين مفهوم الدولة وتشكّلها هنا وهناك.
من عوامل فشل الدولة التمييزُ الممارس ضد بعض الجماعات والتفاوت الاقتصادي
يعرّج المفكر العربي، في هذا السياق، على كيفيّة نشوء الدولة العربية الحديثة، ويرى أنّها تعود إلى أجهزة الدولة الاستعمارية، كما لا يجوز تجاهل مرحلة التنظيمات العثمانية، في القرن التاسع عشر، التي أنتجت سياسيّي الدولة التركية، ومنهم مصطفى كمال أتاتورك، وبعض من باشروا بتأسيس الدول العربية تحت الانتداب، وفي بدايات الاستقلال، وساهموا مساهمةً فعّالة في صياغة دساتيرها وإدارتها.
يشير بشارة إلى سؤال عربي كثير الرواج: لماذا تطوّرت الديمقرطية في الغرب ولم تتطوّر عربياً على الرغم من كون الدول العربية نشأت من رحم الأجهزة البيروقرطية الغربية؟ ويرى أن السؤال لا معنى له من زاوية العلوم الاجتماعية، لأنّها تبحث في الظواهر ولا تبحث في غيابها.
ينتقل صاحب كتاب "المجتمع المدني: دراسة نقدية"، بعد ذلك، إلى دراسة التمايز بين الدولة ونظام الحكم بشكل أكثر عمقاً، وهو يعتمد هنا على ضخّ محاضرته بمفاهيم جديدة مثل المواطَنة والبيروقراطية لمقاربة هذا المحور.
يقول: "تتفاوت البيروقراطية بنيةً وحجماً ونجاعةً بين الدول الفقيرة والغنية، وبين النظم الليبرالية والاشتراكية. ولكنْ لا توجد دولة من دون جهاز دولة، أيّ من دون البيروقراطية. وهذه الأخيرة هي الأساس المادّي لتصوّرنا لاستمرارية الدولة على الرغم من تَغيُّر الأنظمة السياسية. وهو ليس الأساس الوحيد، فاستمرارية المواطَنة، على الرغم من تبدّل نظام الحكم، هي عنصر أساسي في تصوّرنا للدولة".
ويصف بشارة المواطنة بأنها "مُركّب من الحقوق والواجبات، وتترتّب على 'عضوية' الفرد المباشرة في الدولة، وتعني أيضاً الجنسية نحو الخارج. والحقوق والواجبات التي تتألّف المواطنة منها هي التجسيد الأرقى لفكرة السيادة على إقليمٍ ما وسكّانه. ولا يوجد أيٌّ من هذه العناصر في حالة سكون، أو بمعزل عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولكن يمكن لسكان الدول في الحداثة تثبيتها في الذهن بوصفها تجريدات، وتمثيلات ذهنية للمكونات التي تشكّل خصوصية الدولة في تمايزها عن المجتمع والاقتصاد، وحتى عن حكام أي دولة بعينها".
من الأفضل تجنّب الغوص في مناقشة اللفظ بوصفه مدخلاً لفهم الدولة نظرياً
يخلص المفكّر العربي إلى أنّ "التمييز بين الدولة ونظام الحكم قائم في الحداثة، وأن التماثل الذي تصنعه الديمقراطية بينهما هو تماثل مركّب يتجلّى في وحدة الدولة وتوزيع السلطات. أمّا في الدولة السلطوية، التي يبدو فيها التمايز واضحاً بين الدولة والنظام، فتضعف مؤسّسات الدولة لصالح قوى النظام الحاكم. وفي حالة فرض وحدة الدولة بالقوّة من أعلى، ينشأ احتمال ظهور الشروخ والتصدّعات عند تغيير النظام".
خلال المحاضرة، قدّم المفكر العربي خمسة تعريفات للدولة، أولاً بما هي "سُلطة تَحتَكِر وسائل العنف، ولديها القدرة على ممارسة هذا الاحتكار على إقليمٍ وسكّانه. والتمكّن من احتكار العنف ليس قائماً في مفهوم السلطة ذاته، وشروطه متضمّنة في الحداثة وما وفَّرتْه من التكنولوجيا ووسائل القمع ووسائل التنظيم من تحكم ورقابة". وثانياً باعتبارها "سُلطَة تشريعية لسنّ القوانين السارية، تُدار بموجبها شؤون السكّان الذين أصبحوا مواطنين بتعريفهم بالقانون وخضوعهم للقانون. وقد تكون هذه السُّلطة في يد حُكّامٍ غير منتخبين أو في يد برلمانٍ منتخب".
أما التعريف الثالث للدولة الذي يقترحه بشارة فهو "سيادةٌ على إقليم محدّد بحدود تُسَمّى حدود الدولة، ويُمارَس فيها احتكار العنف والتشريع". وفي تعريف رابع يقول: "تمارس الدولة السيادة على شعب يقع ضمن حدودها، خاضع لسلطاتها، وتُمثِّلُه السُّلطة رسميّاً أمام الدول الأخرى. فهي دولته. إنّها دولة هذا الشعب بمعانٍ كثيرة".
أمّا التعريف الخامس، فيعتبر فيه أن الدولة "جهاز بيروقراطي محترف متخصّص بإدارة الشأن العام بموجب قوانين تنظّم عمله. يمثّل جهاز موظّفي الدولة هذا، على اختلاف دوائرها، جَسَد الدولة المادّي المحسوس في التواصل مع المواطنين".
يلفت بشارة إلى سؤال يقول بأنه "من المؤكّد أنه قد تبادر إلى الأذهان"، سؤال يتعلّق بالتنظيم المسمّى "داعش"، والذي حقّق غالبية شروط تعريف الدولة المشار إليها، أبرزها احتكار العنف والتشريع في إقليم وعلى جماعة سكّانية، كما أنشأ جهازاً بيروقراطياً فاق في نجاعته بعض الدول المعترف بها على الأقل في تحصيل الجباية، فهل يمكن أن يجري تصنيفه علمياً كدولة؟
ينبّه بشارة إلى أن "داعش" لم يحظ باعتراف، لأنه أقام كيانه فوق أرض دولة ذات سيادة معترف بها، ولم يصبح عنفه الفائق شرعياً بمجرّد احتكاره، بل لم يتمكّن من استدامة هذا الاحتكار لمدة طويلة حتى يصبح تعبيراً عن السيادة بحيث يتكيّف مع النظام الدولي ويتكيّف النظام الدولي مع وجوده.
انطلاقاً من هذه الملاحظة، يفصّل بشارة أهمية معطى "الاعتراف الدولي" لاكتمال شرعية الدولة. يقول: "بات الاعتراف الدولي بالسيادة على الإقليم والسكّان ضرورياً" رابطاً هنا بين هذا الاعتراف وكون النظام العالمي هو في النهاية نظام وحدته الدولة، ما يعني أن غياب الاعتراف الدولي يعرّض الكيان الذي يدّعي أنه دولة إلى عدم الاستقرار.
لإبراز أهمية الاعتراف الدولي، يضرب بشارة مثال بلدان عرفت سلطة فقدت قدرتها على احتكار العنف والتشريع، وشُلّ جهازها الإداري، ولم يبق لها سوى الشرعية الدولية والمحلية، كما هو الحال مع الكويت خلال الاحتلال العراقي، وحالتيْ ليبيا واليمن راهناً، وكان هذا الاعتراف كافياً لتواصل تعريفها كدولة، وهو ما يمنح هذه السلطات الفرصة لاستكمال مقوّمات الدولة على شرط أن يتمّ ذلك خلال فترة زمنية معقولة.
تصدّى بشارة أيضاً إلى علاقة الدولة بالشعب، وهو يرى أن الأزمنة الحديثة جعلت من الدولة مطلباً لا غنى عنه، مشيراً إلى "وعي سائد بأن البديل عن وجود الدولة ليس تلك اليوتوبيات التي يجري إطلاقها، ولا المؤسسات المعولمة، وإنما الحروف الأهلية والفتن التي لم يختلف عن التخويف منها مفكّرو الحداثة الأوروبية مثل هوبز عن مفكّري العصر الوسيط، ومنهم الفقهاء المسلمون حين فضّلوا السلطان الغشوم على فتنة تدوم".
يصل بشارة عبر هذا المدخل إلى واحدة من أبرز الإشكاليات النظرية التي تتعلق بالدولة وهي علاقتها بالقوميات. يقول: "ليست الدولة فكرةً مصطنعةً بالمقارنة مع القومية التي تبدو لبعض القوميين ظاهرة طبيعية، فقد نشأت الدول الحديثة قبل أن تنشأ القوميات، لكن النزعة القومية اكتسحت أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر، وبسببها تقلّص عدد الدول من 1500 دولة وكيان سياسي إلى نحو 25 دولة في بداية القرن العشرين. وإن كانت النزعة القومية غالبًا نهضوية ووِحدوية، ودفعت إلى دمج إمارات وكيانات اختياريًا أو بالقوة، فإن القومية تعبر أيضًا عن نزعة انفصاليّة، وقد خَبِرنا ذلك في حالتي الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية والعثمانية، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وتفككهما إلى دول قومية في عصرنا هذا".
يضيف: "لكن النزعة الوحدوية لا تقلّ أهميّة عن النزعة الانفصاليّة، وهي في الحالتين متعلقة بمدى النجاح في قومنة الجماعات الإثنية ونزوعها في التعبير عن ذاتها في الدولة، وتوافر الظروف التاريخية التي تتيح لها التحول إلى أمة ذات سيادة في دولة، وغالبًا ما يكون الإجماع على الدولة ناجمًا عن القناعة أنها تعبير عن توق قومي أو إثني إلى الاستقلال في دولة".
لا ينفي ذلك، بحسب بشارة، إمكانية بناء دول متعددة القوميات "تمكَّنت من تطوير انتماء للدولة وتحويل المواطنين إلى أمة فعلًا، ولأن تكون دولة جميع المواطنين، مقابل دول أخرى لم تنجح في ذلك".
يقدّم المفكر العربي هنا بعض عوامل هذا الفشل فيذكر "التمييز الممارس ضد بعض الجماعات، وكذلك التفاوت الاقتصادي الاجتماعي الذي تفسّره النخب الممثلة للهويات بوصفه تمييزًا موجها، وعدم قدرة نظام الحكم على توفير مستوى معيشي أو بناء شبكة مؤسسات خدمات تربط الجماعات مصلحيًا بإطار الدولة".
ويلفت في نهاية حديثه، وقد أشار إلى باب أخير من ورقته لم يسمح له الوقت المخصّص للمحاضرة بتناوله، إلى أنه "لا وجود في جعبة دراسات الانتقال الديمقراطي ولا غيرها من المقاربات حلٌّ لدولة لا تحظى بشرعية بين مواطنيها، ولا سيما بوجود شروخ تاريخية عميقة وقيادات انفصالية ذات قواعد شعبية".
تساعد هذه التعريفات والإضاءات، والقراءات النظرية التي اقترحها بشارة طيلة محاضرته، في امتلاك تصوّر حول مفهوم أساسي يخترق حياة الناس في كلّ مكان. الدولة بهذا المعنى مفهومٌ/ظاهرة جديدة تنضاف إلى قائمة من المفاهيم /الظواهر التي يشتغل المفكّر العربي منذ سنوات على تقديم تأصيلات نظرية لها في الفكر العربي. قائمة نجد فيها: المجتمع المدني، الطائفية، الحرية، العلمانية...