علي جعفر العلّاق.. احتفاء بسيرة عراقية للقصيدة

26 ديسمبر 2022
علي جعفر العلّاق أثناء قراءة في "مهرجان سلطان بيلي" بإسطنبول، صيف 2022 (العربي الجديد)
+ الخط -

أيّام قليلة وتدخل تجربة الشاعر العراقي علي جعفر العلّاق عقدَها الخامس. تجربةٌ افتَتحها بمجموعته "لا شيء يحدث، لا أحد يجيء"، التي نشرتها "دار العودة" عام 1973، واضعاً بذلك حجرَ الأساس لمسيرةٍ فريدة، ليس فقط بين أبناء جيله من شعراء السبعينيات في العراق، بل وكذلك عربياً. دون الثلاثين من العمر، أعطى العلّاق، منذ كتابه الأوّل، صورةً عن لاحقِ أعماله، حيث الشعر لا يستكين للتصنيفات ــ عمود وتفعيلة ونثر... إلخ ــ والمفاهيم الجاهزة، بل يأخذ لنفسه المسار الذي يريد، مطوِّعاً هذا "الشكل الشعري" أو ذاك. يكتب في إحدى قصائد هذه المجموعة: "أمدُّ كفّي نافضاً عن صوتِكِ الماءَ/ وعن شفاهِكِ الأجراسْ/ أُلقي على حنينِكِ المبتلِّ في المساءْ/ عباءَتي وأستحمُّ فيهْ/ حمامةً خرساءْ/ تأكلُ من فرحَتِها الريحُ/ ويرتخي النهرُ على جناحِها/ عباءةً من خَرَزِ البكاءْ/ لو ينْحني النومُ على أصابعي/ ربابةً زرقاءْ/ تتركُني فوقَ رمادِ الماءْ/ حجارةً تسـدّ دربَ النومِ بالبكاءْ".

عند الساعة الحادية عشرة من صباح غد الأربعاء، تحتفي "دار الشؤون الثقافية العامّة" في بغداد بالشاعر العراقي، عبر جلسةٍ تشارك فيها مجموعة من الأكاديميين والأدباء والمثقّفين العراقيين، وذلك بمناسبة صدور كتابه السيَري "إلى أين أيّتها القصيدة؟"، الذي خرج حديثاً إلى المكتبات في طبعتين متزامنتين عن "دار الشؤون" في العاصمة العراقية و"الآن ناشرون" في عمّان. وقد سبق لـ"العربي الجديد" أن نشر مقتطفات من هذا الكتاب (هنا وهنا).

بلغةٍ تتأمّل نفسَها ويتأمّل كاتبُها نفسَه فيها، يروي صاحب "ها هي الغابة، فأين الأشجار؟" مسيرته ومسيرة قصيدته في تطوّرهما وترحالهما، منذ وعيه الأوّل في قريته الصغيرة بريف الكوت (في محافظة واسط)، حيث وُلد عام 1945، وحتى ربيع 2020 وظهور وباء كورونا بينما كان في زيارة إلى إسطنبول، وما بينهما من انتقالٍ للعيش والدراسة في بغداد، ومن ثمّ لاستكمال الدراسات العُليا في المملكة المتّحدة، قبل العمل في جامعة صنعاء، ومن ثمّ جامعة الإمارات، والتنقّل بين عواصم عربية ضمن عمله الأكاديميّ أو استجابةً لدعواتٍ لقراءة الشعر، والحديث عنه، والتحكيم لجوائزه.

سيلحظ قارئ الكتاب تداخلاً كبيراً بين الأحداث التي عايشها المؤلّف وبين قصيدته، وكأنّ الشعر ضرورةٌ عنده لفهم ما يحدث له وما يجري من حوله. نرى ذلك عبر استحضاره مقاطع عديدة من قصائده يتناول فيها هذه الواقعة أو تلك من تفاصيل عائلية (شخصية والده التي جمعت بين الحنوّ والصرامة، ورحيل أخته المفجِع) أو من أحداث ألمّت ببلده وعايشها من قريب أو بعيد (حرب الخليج الأولى، ثم الثانية، ومن ثم الاحتلال الأميركي للعراق).

العلاق

كما يُعطي العملُ مثالاً على قدرة الشعر والشاعر ودورهما في العمل الثقافي، حيث لم يكن العلّاق من الذين تنغلق القصيدة عندهم على نفسها، أو ينغلقون عليها، بل هي عندَه انفتاحٌ على عوالم أُخرى، جغرافيّة أو أدبية وفكرية. ومن هنا تنقّلاته العديدة، ومن هنا أيضاً اشتغاله في النقد الأدبي والثقافي، الذي نشر فيه العديد من الكتب، ومن هنا كذلك عملُه لسنواتٍ طويلة أستاذاً جامعياً ــ وهي حقولٌ قلّما جمع بينها شاعرٌ عربيّ معاصر بالجدّية نفسها.

وإذ يُمثّل الكتاب وثيقة عن واحدةٍ من أبرز تجارب الشعر العراقي والعربي المُعاصرَيْن، فإنه أيضاً تسجيلٌ لمحطّات ثقافية عربية، حيث نتعرّف، من الداخل، على العديد من الشخصيات الثقافية والفكرية التي صادقها أو رافقها العلّاق، كما نعود إلى لحظات فارقة وعصيبة من تاريخ العراق على وجه الخصوص، ونراها هذه المرّة بعين شاعر.

من هذه اللحظات العصيبة نقرأ، مثلاً، وصف الشاعر لتلك الليلة البغدادية، "أطول ليالي التاريخ كلّها": "وفي لحظات الهدوء المتقطّعة، أعني بين موجة قصف وأخرى، كانت بغداد، وهي في ظلامها المهيب، تبدو في غاية المُكابرة. لم نكن نتصوّر، قبل ذلك الوقت، أن نجومها ساطعة وغزيرة إلى هذا الحدّ. كانت تبدو وكأنّها، بتوهّجها الدمويّ هذا، تضيء زوايا التاريخ كلّه. وفي تلك الليالي الشتويّة الملتهبة، كثيراً ما كان النهار يتكشّف عن بيوت مغطّاة بالأمطار الداكنة؛ كان الفضاء كلّه مُشبعاً برائحة المتفجّرات، ورماد المباني، ودخان الطائرات المُغيرة. (...) كانت رائحة الهلاك والترقّب المرّ تقود أهل بغداد معها إلى الساعة الثانية والنصف من ليلة 17/ 1/ 1991. هل كان يُدرك، ذلك الخيط المعدني النحيل، أن ليلتنا تلك ستطول إلى ما لا نهاية؟ وأنه سيغرق، بل سنغرق معاً، في ليل لم يسبق لبغداد أن رأته، ولم يسبق لأهلها أن شهدوا ليلاً مثله؟ لقد كان، حقّاً، أطول ليالي التاريخ كلها: بدأ مرعباً ومدويّاً، كزلزال كونيّ، واستمرّ مهلكاً وكثيفاً، حتى هذه اللحظة".

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون