عندما يشيح الشاعر عن نجمته السرية

05 أكتوبر 2023
نرجس الذي ظلَّ يتملّى صورته على صفحة الغدير، كارافاجيو، 1599، (Getty)
+ الخط -

لماذا تَكثرُ في الشعر العربي النمطية والاتباع؟ أحياناً تقرأ قصائد متشابهة لشعراء مختلفين، وحتّى في صورهم الحلمية، تشعر بالتشابه، كما لو كان جميعهم يحلمون الحلم نفسه. وفي الحقيقة كلٌّ منهم بلا حلم. عندما تتشابه الأصوات، فذلك يعني أنَّ الشاعر أشاحَ عن تلك النجمة السرية التي في أعماقه، أشاح عن أناه الآخر الذي يجهله والذي يتجلى في الأحلام وفي القصيدة الحقيقية. 

هذا الشاعر لا يكتب القصيدة، بل يُفبركُ القصائد، ويتقمّص أصوات الآخرين. لأنّه في النص، كما في الحياة، على الشاعر أن يكون هو؛ لا أن يستعير صوت غيره، ويكون في هذه الحال قد خان نفسه. وأنتَ عندما تخونُ نفسكَ تخون العالم. تخسر نفسك وتخسر العالم. كنْ وفيّاً لنفسك بأن تتخلّص أيضاً من نظرة الآخرين وتقييمهم لك. رأيُ الآخرين ليس ضروريّاً لتقييمك لذاتك، رأيُ الآخرين ليس ضرورياً لتوازنك النفسي. لا تبحث عن كتابة تروق الآخرين، ولا تبحث عن إرضاء القارئ، لأنّك في هذه الحال تصير أسير نظرة القارئ، أي قارئ كان. القارئ هو صورةٌ ذهنيّةٌ لدى الشاعر أكثر منه حقيقة واقعية. وتكونُ أنتَ في الأسر.

لا تبحث عن كتابة تروق الآخرين، ولا تبحث عن إرضاء القارئ

وحقيقة الإبداع هي نشدان الحرية المُطلقة. وأقصد بالحرية تلكَ الداخلية التي تشعرُ بها حتّى ولو كنت وراء القضبان. وأيضاً لا تجعل من قارئِك المُتخيَّل مرآةً تمجّد فيها صورتك وتنسى نصك وتمضي إلى الجفاف. كما نرجس في الأسطورة اليونانية، الذي ظلَّ يتملّى صورته على صفحة الغدير ولم يفعل شيئا آخر إلى أن مات. ورمزية الأسطورة أنَّ النرجسية تؤدي إلى العقم، إلى الموت، وها أنت تنغمر في صورتك مكان أن تنغمر في نصك.

وإذا كنتَ حقيقةً تبحثُ عن رضاء القارئ، فاتخذ طريقاً مغايرة، لا تستجدي إعجاب القارئ؛ فالقارئ لن يرضيه سوى النص الذي يعبّر عن أصالتك أنت، النص الذي يحمل بصمتك، النص المختلف، النص الذي يتأسّس على الحدس مُستبِعداً العقل.

لن يرضي القارئ سوى النص الذي يعبّر عن أصالتك أنت، عن بصمتك

تخلّص من السؤال الذي يسكن الكاتب المبتدئ، الكاتب الجبان والذي مفاده: ماذا سيقول عني الآخرون؟ إنّه سؤال الفتيات في اضطراب المراهقة والذي يعكس عدم ثقة بالنفس.

كن أنت. اكتب نصوصاً تُترجم جوهرك المفرد وسرّك المكنون. وفي الأثر، أي ما أُثر عن العرب، أنهم قالوا: "إن الله أودع سرّه في عبده". سره أي تميّزه وتفرّده المجهول الذي نرى أثره ولا ندرك كنهه.

هو السر الكامن في أعماقك، والذي لا يشاركك فيه أحد. إنّه نبع أصالتك. 

عن تلك الأعماق التي أوغلت ثقافة الشرق بعيداً في سبرها، تقول الكاتبة الفرنسية - الأميركية مارغريت يورسنار في كتابها "عيون مفتّحة" Les Yeux Ouverts: لقد ذهب المتصوّفة بعيداً في معرفة وجلاء الذات البشرية. وهذه المعرفة الجوانية هي أيضا التي دفعت عالِم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ إلى الذهاب إلى الشرق، نبع الشمس والحكمة، كما فعل مجايله الألماني هرمان هيسه.


* شاعر ومترجم تونسي مُقيم في أمستردام

 

موقف
التحديثات الحية