قدّم أحد عشر باحثاً أوراقهم في ندوة "مونديال قطر 2022 من منظور الخطاب: القوّة، والسياسة، والرهانات" التي عقدَتها، أوّل أمس الخميس، "وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة.
وبحث المتحدّثون، على مدار أربع جلسات، تظاهرة بطولة كأس العالم التي استضافتها قطر نهاية العام الماضي من سجال ذي طابع ثقافي، وتحليل خطاب البطولة والخطاب عنها، والذي كان حاملاً لرهانات مختلفة.
أنطولوجيا المشجّعين
افتتح الجلسةَ الأولى بحثٌ مشترك وضعه ريتشارد جيوليانوتي رئيس كرسيّ اليونسكو في الرياضة والنشاط البدني والتعليم من أجل التنمية، وهانز هونيستاد الباحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، وأستاذ السوسيولوجيا الرياضية بجامعة جنوب شرق النرويج.
وتحت عنوان "مونديال قطر: أنطولوجيا المشجّعين والقوّة الناعمة وأسئلة النسبية الثقافية"، درس البحث الخطابات الرئيسة السياسية والثقافية المتعلّقة باستضافة قطر نهائيات كأس العالم لكرة القدم للرجال لعام 2022. وقال جيوليانوتي، الذي قرأ ملخّص البحث نيابةً عن زميله، إنّ منظوراً أوروبياً سلبياً راج في مواقع مختلفة، إذ تناول حركات الاعتراض على هذه البطولة ومقاطعتها في شمال أوروبا، ودور البطولة في تعزيز القوّة الناعمة لقطر (لا سيما فيما يتعلّق بالنقاشات الأخيرة عن "الغسيل عبر الرياضة").
محفلٌ شبكي فرض سردية مغايرة عن الذات العربية وقيمها
استفادت هذه الورقة في قراءتها من نظريات الاستشراق والاستشراق الجديد، والنسبية الثقافية، والبنائية في العلاقات الدولية، وخصوصاً المفاهيم التي وضعها إدوارد سعيد في السبعينيات. كما استند الباحثان إلى عمل ميداني ومقابلات أُجريت في قطر وأماكن أُخرى، في إطار مشروع يموّله مجلس البحوث النرويجي، يدرس العلاقة بين كرة القدم والدين، ويتناول التحليلات الأوسع للخطابات والنقاشات الدولية المتنوّعة عن الحدث.
وإزاء الأسئلة التنميطية مثل "كيف لهذه البلدان الصغيرة أن تنظّم حدثاً كبيراً؟"، واستخدام وسائل الإعلام الأوروبية صوراً للعمالة الآسيوية التي تشجّع فرقاً أجنبية ممن سُمّوا بـ"المشجّعين المزيّفين"، ومنع الخمور وما إلى ذلك، قال جيوليانوتي إنّ منع الخمور يحدث في ملاعب النرويج، فهو إذن ليس مسألة حصرية، كما أنّ تشجيع كرة القدم أمر عابر للثقافات، و"لدينا في النرويج الكثيرون الذين يشجّعون فرقاً بريطانية".
تفادي اللاتمكين
من ناحيته، قال جويل روكوود، أستاذ إدارة الرياضة في جامعة كوليج دبلن بإيرلندا، في بحثه "بناء القوّة الناعمة وتفادي اللاتمكين الناعم في الفعاليات الكبرى لكرة القدم: التعدّدية الثقافية والثقافة الكونية من خلال مونديال قطر"، إنّ قطر راكمت حصيلة من الاستضافات لفعاليات كبرى، من خلال تنظيمها أهمّ البطولات الرياضية الدولية: كأس العالم لكرة القدم للرجال 2022.
وإذا أطّر عديدون هذه الاستضافات بوصفها محاولات للتأثير في الجماهير الدولية وبناء القوّة الناعمة، فإنّ مثل هذا الجدل في عالم الرياضة والعلاقات الدولية يمكن أن يثير أحياناً انتقادات للشعوب المضيفة، وهي انتقادات صُوّرت على أنها لاتمكين ناعم، على حد تعبيره.
واتبع الباحث نهجاً زمنياً طويلاً لبحث الدروس المستفادة من استضافة بطولتين سابقتين: كأس آسيا عام 2011، وكأس العالم للأندية عام 2019، وكيفية انعكاس هاتين الاستضافتين على تنظيم كأس العالم عام 2022. أُجريت مقابلات شبه منظَّمة مع مشجّعين دوليّين ومتطوّعين في هذه الأحداث، وتشير النتائج إلى تصوّرات الهوية الثقافية لقطر واستضافة الفعاليات الضخمة، والتي أُطّرت من خلال مفاهيم الثقافة الكونية والتعددية الثقافية، وكشفت من ثمّ عن التحدّيات الرئيسية التي ووجهت، والدروس المستفادة من تنظيم هذه الفعاليات. كأس العالم في قطر لم تكن اصطداماً ثقافياً بين القارّات، ولكنّها طرحت الأسئلة والأفكار المختلفة عن الثقافة العالمية وسلّطت الضوء على القيم العالمية ومدى توافق منظومات القيم الدينية المختلفة.
السردية الاختزالية
أمّا الجلسة الثانية، فافتتح أعمالَها مارك أوين جونز، الأستاذ المشارك في دراسات الشرق الأوسط بجامعة حمد بن خليفة في الدوحة، ببحثه المعنون "السردية الاختزالية والاستشراق: عشر سنوات من تمثيل مونديال قطر إعلامياً في الصحافة البريطانية". سعت الورقة، عبر استعراض أكثر من ألف مقالة منذ فوز قطر بتنظيم كأس العالم، إلى سبر أغوار هذا التركيز الاستثنائي المثير للاهتمام، حيث 40% من المقالات كانت حول كأس العالم، وفي غالبها سلبية الطابع.
ولفت المتحدّث إلى أنّ الخطابات الموجهة لمونديال قطر انخفضت في 2017؛ لأنّ المقالات التي تعاين أزمة الخليج زاحمت التي تتابع كأس العالم في قطر، ثم تقادمت الأزمة الخليجية وعادت نغمة كأس العالم إلى عهدها.
ومن خلال تحليل الآلاف من عناوين الصحف التي تذكر قطر وروسيا منذ عام 2010، لتصنيف الموضوعات وطريقة وضع الأجندات عندما يتعلّق الأمر بمونديال قطر 2022، حاول الباحث تحديد كيفية "تأطيرها" من خلال وسائل الإعلام البريطانية. واستنتج أنّ أهمية قطر في الصحافة البريطانية مؤطَّرة إلى حد بعيد وفقاً لكرة القدم، وأنّ الاستعارات عنها سلبية إلى حدّ بعيد، وعلى العكس من ذلك، لم تحصل روسيا على درجة التمثيل نفسها التي حصلت عليها قطر، على الرغم من التغطية السلبية التي لاقتها، مفسّراً هذه الاختلافات من خلال مفاهيم القيم الإخبارية، والاستشراق، وسياسة الدولة الصغيرة.
خطاب فرنسي
"الحملة على مونديال قطر: قراءة في الخطاب الإعلامي الفرنسي" هذا عنوان البحث المشترك لمحمد الفاتح حمدي؛ الأستاذ المتخصّص في علوم الإعلام والاتصال، وهشام عكوباش أستاذ بقسم الإعلام في جامعة قطر.
وفي العرض الذي قرأه عكوباش، قال إنّ بعض وسائل الإعلام الفرنسية شنّت حملة ضدّ قطر، بمناسبة تنظيمها بطولة كأس العالم 2022، قبيل انطلاق هذا الحدث الرياضي، وقد ركّزت خطابات هذه الحملة على بعض القضايا، من قبيل: البيئة و"مخالفة قطر لمعاييرها"، و"استغلال" العمالة في المشاريع المتعلّقة بالبطولة، وحريات وحقوق الإنسان، مُشيرة إلى رفض قطر ظهور أيّ رمز من رموز المثلية على أراضيها، وغيرها.
وأمام هذه اللحظة التاريخية، وما أنتجه الإعلام الفرنسي من سرديات خطابية عن تنظيم قطر كأس العالم، رصد البحث عيّنة من هذه الخطابات بالوصف والتحليل الكيفي، كاشفاً عن محدّدات وبواعث إنتاج هذا الخطاب الدعائي والعدائي ضدّ قطر، ومعرفة نوعية القضايا التي حاول الإعلام الفرنسي التركيز عليها في محاولة للتشكيك في قدرات قطر على تنظيم هذه التظاهرة، ساعياً لمعرفة القيم والأيديولوجيا التي تحرّك هذه الخطابات، والخلفيات الثقافية والسياسية التي انطلقت منها بعض الدوائر الإعلامية الفرنسية في حملتها ضد قطر قبل شهر من تنظيم البطولة.
فن الحضور
في الجلسة الثالثة، تناولَت بشرى زكاغ، أستاذة سوسيولوجيا التربية بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لجهة الشرق بالمغرب، أحداث المونديال "كما عاشه الشبكيون العرب".
ورأت زكاغ أنّ أحداث مونديال قطر، ومن خلال اندماجها مع الشبكات الرقمية وممارسات الذات الجماهيرية، ساهمت في تحويله، بدرجات متفاوتة، من حدث عالمي تقليدي تحكمه علاقات ثابتة إلى محفل شبكي وعقدي فرض سردية مغايرة عن الذات العربية وقيمها الإنسانية والدينية.
واعتمدت مشاركتها "النتنوغرافيا" في طرق الشبكيّين العرب في التفاعل مع تظاهرة مونديال قطر وأشكال فنّ الحضور التي رافقتها، سواء في فضاء الشبكات الافتراضية، أو في الفضاءات الموقعية (الملاعب والمدرجات)، أو في فضاء الاستقلالية، وهو ذلك الفضاء الهجين بين الحضور الافتراضي والموقعي، والأخص فيه حضور المؤثّرين والصحافيّين وقائدي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي والمجموعات الشبكية.
جسّد ظهور نموذج جديد للرياضة بوصفها اقتصاداً جيوسياسياً
وقاربت الباحثة في استقصائها طبيعة التفاعلات الاجتماعية والمعاني التي وهبها الشبكيون العرب لما وفد عليهم من صور، ومقاطع فيديو، وفعاليات بثّ حي، وتغريدات، وتدوينات، ومسكوكات، وما إلى ذلك مما توفّره الشبكة من روابط وعقد متدفّقة وسائلة، جسّدت - مع انطلاق حفل الافتتاح - نموذجاً لما سمّاه الباحث الإيراني الأميركي آصف بيات "فنّ الحضور"، ويقصد به الشجاعة والإبداع في تأكيد الإرادة العامّة، السلمية والحضارية، والاحتفاء بالذات والحياة والعالم وكلّ ما فيه.
الخطابات الدينية
أمّا "مونديال قطر في الخطابات الدينية"، فقد رصده عبد الرحمن حللي، الأستاذ المشارك في قسم القرآن والسنّة بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر. وبحسب قوله، فقد رافقت هذه البطولة نشاطات دينية، وخطابات مختلفة، حاول بعضها استثمار المناسبة لأغراض دعوية، جرى تضخيمها، ورأى بعضُها الآخر في النجاح القطري في تنظيم الحدث وما رافقه من مظاهر إيجابية مناسبة لادّعاء انتصارات دينية – إسلامية يمكن ترويجها شعبوياً. وجرى في هذه الخطابات - كما واصل - خلط الديني بالسياسي بالرياضي، واختزال الجميع بالديني، سواء في الجانب الإيجابي منه (انتصاراتنا) أو الجانب السلبي (هزائمهم).
ولفت إلى أن هذه الأنماط من الخطابات عزّزتها بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي يبحث أصحابها عن الانتشار وعدد المشاهدات، فبالغت في ما وقع، وروّجت لأحداث لم تقع، ونُسبت أُخرى إلى زمن المونديال وهي سابقة عليه.
من جهة أُخرى، ظهرت أصوات رافضة لهذا التوظيف الديني من خلفيات مختلفة، بعضها مبدئي لا يرى الحدث برمّته قضية للداعية ينتسب إليها، وإنما يمكن أن يستثمر الحدث للنشاط الدعوي فقط، بينما رفضها آخرون لما في ذلك من شعبوية لا تخدم الخطاب الديني، أو للأمرين معاً، كما أضاف.
سرديات متنافسة
وتحت عنوان "مونديال قطر: السرديات المتنافسة في أوروبا والعالم العربي"، حلّل لوران بونفوا، الباحث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي وفي مركز الدراسات الدولية في مدرسة العلوم السياسية في باريس، ما وقع من تنافس في سرديات جديدة أوروبية رأت أن النظر إلى المونديال تقوده أحكام مسبقة ترى أنّه فاشل لأنه لم يتمكن من تحسين صورة قطر لدى هذه النخبة. وضرب جملة من الأمثلة تكرّرت لدى صحافيّين فرنسيين رأى بعضهم أنّ صورة قطر يجب أن تتحسّن في ثلاث عواصم: لندن وباريس ونيويورك، واصفاً ذلك بالتعصّب والانحياز.
كما ساق مثلاً من صحيفة "لوموند" حين نشرت تقريراً يركّز على مجموعة من الهنود من ولاية كيرلا يشجّعون المنتخب الفرنسي، إضافة إلى مطالبة مقاطعة البطولة من قبل بعض عمدات المدن، إلّا أنّه مقابل ذلك فإنّ نسب مشاهدة الناس على التلفزيون كانت عالية، لأنّ غالبية الناس - كما واصل - لم يأبهوا بهذه الخطابات. وفي ورقة سايمون تشادويك، أستاذ الرياضة والاقتصاد الجيوسياسي في كلية سكيما لإدارة الأعمال في باريس، بعنوان "الخطاب عن بطولة كأس العالم 2022: الاقتصاد الجيوسياسي الجديد للرياضة"، قال إنّ المونديال جسّد ظهور نموذج جديد للرياضة بوصفها اقتصاداً جيوسياسياً؛ وهو ما انعكس في الطرائق التي أُطّرت بها البطولة في جميع أنحاء العالم.
وأضاف أنّ الطبيعة متعدّدة الأقطاب للرياضة في القرن الحادي والعشرين تُعتبر إحدى سمات الاقتصاد الجيوسياسي. فعلى سبيل المثال، توحّدت دول شمال أوروبا قبل البطولة على حمل شارة "حب واحد"، ما ولّد استجابة لدى شعوب العالم العربي بدورها على تبنّي شارات بديلة، مثل دعم فلسطين.
علاوة على ذلك، في الوقت الذي سعت فيه قطر لتعزيز مبدأ القوّة الناعمة والانخراط في الدبلوماسية من خلال استضافتها للبطولة، أطّر المراقبون في شمال الكرة الأرضية السياسة والاستراتيجية القطرية على أنّها ليست أكثر من "غسيل عبر الرياضة".
الديناميات السياسية
"لعب القوّة الإقليمية: الديناميات السياسية المتغيرّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في سياق مونديال قطر" كان مدار ورقة يان بوس، الباحث الأول في معهد العلوم السياسية في جامعة القوّات المسلحة بميونخ في ألمانيا.
وانطلاقاً من الفكرة القائلة إنّ كرة القدم والسياسة مرتبطتان قطعاً، جادل بوس بأنّ كأس العالم 2022 في قطر ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالديناميات السياسية الإقليمية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى وجه الخصوص، اتّضح أنّ الخلافات بين قطر وبلدان الخليج العربية المجاورة لها، والتي وصلت ذروتها في حصار 2017 - 2021، لها أبعادٌ مرتبطة بكرة القدم.
وكذلك، فإنّ ما يُسمّى "اتفاقات أبراهام" التي أدّت إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين عدد من البلدان العربية و"إسرائيل" كانت لها أيضاً تداعيات على مجال كرة القدم من نواح متعدّدة. تناول الباحث تعقيدات سياسات القوّة الإقليمية، وتأثيراتها في سياق كأس العالم، استناداً إلى فهم الممارسة النظرية للدبلوماسية الذي اكتسب مكانة بارزة في حقل العلاقات الدولية. يُذكَر أنّ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" يزمع نشر مخرجات الندوة في كتاب إلكتروني بالعربية على الموقع الإلكتروني للمركز.