بلُغة منسوجة من حنين ودَفقٍ في المشاعر والأفكار، يسرد الكاتب الأردني حسين جلعاد جملة الوقائع المؤسّسة لطفولته وأيام الصبا في مدينة يكاد أدقّ وصفٍ يعبّر عنها -مهما اتّسعت رقعتها وقارب سكّانها على المليون- بأنها منسيّة مُهمَلة لمّا تنضج بعد، رغم تراكم الزمن وتعتّق ذاكرتها، منذ بنى العثمانيون فيها أوّل سرايا لهم سنة 1851 في جغرافيا شرق النهر التي تُركت نهْبَ العزلة والإقصاء لأكثر من ثلاثة قرون من حُكمهم.
يذهب الشاعر إلى مغامرة السرد في مجموعته القصصية "عيون الغرقى"، والتي صدرت حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، بعد أن نشَر مجموعتين شعريّتين كانت الأخيرة عام 2007، ليصفي حساباته مع مرحلة أفلَت خلال عقْد التسعينيات؛ انهيار أحلام ورؤى كبرى عاشها الكاتب، وبدأ بعدها بسلسلة مراجعاتٍ ربما لم تنته حتى اللحظة.
إلى مدينة إربد شمالي الأردن، انتقل جلعاد الفتى مع عائلته البدوية التي استقرّت طويلاً في الغور، ليتعلّم حرفَه الأول ودروس الحياة التي لم تأت سهلة، فكثير من الحماقة ستورّثه حكمة في سنٍّ باكرة؛ ومزيداً من التشرّد طالباً وحزبياً وعاشقاً، وستمنحه الصبر وقدرة مهولة على تحمّل عنَت العيش؛ وقليلاً من الحُلم والأمل سيُبقيانه على قيد الشعر والحبّ، ليختزل ذلك في قصة "أسرار مُعلنة: رجع أيلول"، بقوله: "من يومها أيّها الصغير، صرتَ تجرّبُ الحرب باللّعب، وعبرتَ الجسر مبكِّراً نحو الرُّجولة، لقد نبتَ فيك الغناء، لكنّك بقيتَ تُطيِّر الورق!".
يسرد الكاتب أيام الصبا في مدينةٍ منسية لمّا تنضج بعد
في النصّ ذاته، تغيب بعض عناصر القصة التقليدية في تداعٍ لا ينشُد ترتيب الأحداث وبناء الشخصيات، إنما يشيّد مفتتح السرد ويثبّت علاماتٍ وإشارات تتصل برؤية كلّية تبتدئ من ذاك الطفل الذي "يعي العالم منذ القُبلة الأولى لرجل وامرأة يولمان لولد سيأتي ليحمل اسم السُّلالة ويقود القطيع"، وكذلك "شروده خارج السّرب"، وتفتُّح العاشق "بيدٍ ستحمل اسم حبيبتك الأولى وشماً، ورسائل ترميها قفزاً نحو الأسوار والنوافذ العالية"، و"يحدث أحياناً أن يتوقَّف الزَّمن، ولكن في لحظة كهذه تستطيع قراءة الأزمان جميعاً دفعة واحدة". كلّ ذلك يستدعيه أيلول حين أدرك الكاتب العالَم لأوَّل مرة.
مشاهد عديدة من قاع المدينة يلتقطها جلعاد في أكثر من نصّ، حيث الصبي ماسح الأحذية في قصة "بويا" يلمّع حذاء "الأستاذ" الأنيق الذي يتصفّح الجريدة، متحمّلاً شتائمه وتقريعه المستمرّ الذي يتوقّف فجأة مع مجيء سيارة بنوافذ يظلّلها السواد تقلّ "الباشا"، ليتحوّل إلى عصفور وديع يذّكر صوته بطفلة في السابعة، وهو يردّد عبارات الاستكانة والخضوع للباشا الذي يستقلّ السيارة، لتسقط الجريدة وتتطاير أوراقها، ومنها ورقة تحمل صورة الأستاذ وتحتها سطورٌ كثيرة جداً، لم يميِّز الصبي منها غير السَّواد. سواد يغطّي طبقات المدينة التي ينكسر المنتمون فيها لكلّ طبقة اجتماعية دُنيا، لِمَن هُم في الطبقة الأعلى!
وسط صراع اجتماعي مملوء بخيباتٍ وصدمات، فإن أيّاً من المهمّشين الذين يروي الكاتب حكاياتهم يُمكنه أن يتخلّى عن أحلامه؛ بسيطة كانت، أو أتت كتعبيرات غاضبة على الواقع، تحمل معها رغباتٍ مكبوتة ومشوّهة بامتلاك قوّة تبطش بكلّ مَن يعترضون طريقهم. وتتقاسم هذه الفئة غضب أُناس آخرين يخرجون إلى الشارع لدوافع أُخرى دون أن تدرك تلك البواعث المُشتركة لغضبهم، حيث يتسلّق البائع المتجوّل الصغير في قصة "الإسفلت والمطر"، إحدى الحاويات الكبيرة، فراعَه ما شاهد على امتداد ناظريه حيث مجموعات كبيرة تتجمَّع في الداخل بمناسبة يوم الأرض، وفي لحظة ما تفجّر الصمت الحذر، فانطلق أحد الطلبة يهتف: "وحِّد صفّك... وحّد صفّك"، وتحركَّت الجموع بتماوج وهي تغنّي: "نزلنا ع الشوارع/ رفعنا الرايات/ غنينا لبلادي/ أحلى الأغنيات/ غنّينا للحرّية/ للأرض العربية".
شوارع إربد في مطلع تسعينيات القرن الماضي ربما تتوحّد مع شوارع مدن أُخرى، خرج أبناؤها رفضاً لاتفاقيات أوسلو ووادي عربة، وربّما هموم معيشية أُخرى، يُجمعون على أنّ الاحتلال الصهيوني سبب لها، لكنّ البائع المتجوّل الصغير في هذا النص، استذكر حين رأى الجموع أنه حين كان في المدرسة كان الأستاذ يأخذه مع زملائه الطلبة لزراعة الأشجار في يوم الشّجرة، لكنه لا يتذكّر أنه تكلّم عن يوم الأرض!
عيون الغرقى تبقى مفتوحةً حتى بعد أن يفارقوا الحياة
سوف نعود إلى ذاكرة أعتق في قصة "سيدي وقاص" التي تدور أحداثها في قرية تقع في غور الأردن، حيث يلهو طفلان وهما يكتشفان شُرب الخمر للمرّة الأولى، ويشاهدان رجلاً وعشيقته، التي تخون زوجها، في وضع فاضح فيقومان بابتزاز الرجل الذي يمتلك بقالة في القرية ويحصلان منه على ما يريدان من بقالته، بينما ظلّ أحدهما يتخيّل تلك العشيقة تأتيه ضاحكة بغمّازتيها ورائحة الأعشاب وحليب الأغنام العالق بثوبها.
تطفو السياسة مجدّداً في إربد التي استقبل وجهُها شمس تموز في قصة "كائن سماوي"؛ التفاصيل التي كوّنت حياة جلعاد في سنٍّ باكرة حيث التَزم بالعمل الحزبي في صفوف اليسار الأردني، ورغم أن شخصيات القصة قد لا تتطابق مع شخصية المؤلّف، أو أي من رفاقه، فإن شهود تلك المرحلة يُدركون جيداً التشابه بين أحداثها وبين الواقع، حين كانت الأجهزة الأمنية تُخرج موالين لها في مظاهرات مؤيّدة لاتفاقيات السلام بالتزامن مع المسيرات المعارضة، من أجل ترهيب الطلبة، أو إزاحة الأمور عن نصابها، عبر افتعال شجارٍ بين الطرفين، كما تروي القصة تفاصيل غياب أحد الطلبة فترة عن الجامعة، بسبب اعتقاله على خلفية انخراطه في أحد التنظيمات اليسارية، وكان يحدث ذلك رغم كلّ الادّعاءات الرسمية بإنهاء الأحكام العُرفية عام 1989، بعد أكثر من ثلاثين عاماً على فرضها، تحت يافطة "الانفراج الديمقراطي" الذي لم يأتِ إلا بمجالس نيابية توافق على "اتفاقية وادي عربة" سنة 1994، وعلى جميع اتفاقيات الخصخصة مع "صندوق النقد الدولي" التي أفضت إلى بيع الشركات الحكومية بأبخس الأثمان، بذريعة تسديد دُيون الدولة، التي بلغت للمفارقة أكثر من خمسة أضعاف إلى اليوم.
نصوص أُخرى تخوض في تفاصيل الحياة المعيشية لطالبٍ يُطرد من بيته، بسبب عدم دفعه الأجرة المتراكمة عليه، أو نقاشات المثقفين والسياسيين في لحظة حرجة أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي وحرب الخليج، حول تغيير العالم، وتحوّلات المجتمع، وأنماط الإنتاج، ومفهوم البداوة، وصورة المرأة، والوطن، والمنفى.
أما شخصية عدنان في نصوص "الخريف والشبابيك القديمة"، فهي تنظر إلى الأشياء والحوادث والناس من حولها بكثير من الحنين وبعض التأمّل، فيشير إلى "إربد التي أغوته يوماً بعشق المدائن" ليجد نفسه في عمّان التي "تخذله بالضجيج والأقنعة المُستعارة"، وهواجس الانتحار التي تراوده بسبب خيباته المتلاحقة بعد تخرّجه من الجامعة، وحديثه عن المثقفين الذين "يُخفون تحت جلودهم بزّات عسكرية!".يختار جلعاد "عيون الغرقى" عنواناً لمجموعته القصصية لعلّه يُحيل إلى مصائر شخصياته اليوم خارج مدينتهم الأُولى وأحلامهم الكبيرة التي تهاوت، أو إلى عين الغريق التي تبقى مفتوحة، حتى بعد أن يفارق الحياة، لكنها على أي حال تذكّر بقصيدة من مجموعته الشعرية "كما يخسر الأنبياء" (2007) يردُ فيها: "الغرقى لا يعودون يا أبتي/ لا تعود سوى قمصانهم/ فتُعلَّق قرب صورة الجدّ في صدر البيت/ الأمّهات فقط ما يجعل البحّارة يُنشدون للأرض القديمة/ أمّا المدائن فليست تُحمَل في جواز السفر/ وإلّا كيف تظنّ أن عيوننا تصبح محض كُراتٍ زجاجية إذن/ فلا تدمع من حبٍّ ولا ترمش من خوف..".
بطاقة
وُلد الشاعر والصحافي الأردني حسين جلعاد عام 1970، ويعمل حالياً مديراً للتحرير في موقع "الجزيرة نت". صدرت له في الشعر مجموعتان: "العالي يُصلب دائمًا" (1999)، و"كما يخسر الأنبياء" (2007)؛ وتعدّ "عيون الغرقى" (الغلاف) مجموعته القصصية الأولى. كذلك ألّف في الشؤون السياسية دراستين، هما: "المسألة الكُردية وحزب العمّال الكردستاني" (1997)، و"الخرافة والبندقية: أثر العولمة في الفكر السياسي الصهيوني" (1999).