مع الربع الأخير من القرن العشرين، بدأ الكشف عن تزييفٍ مارسه بعضُ مَن اتّخذوا لأنفسهم تسمية مستشرقين، وتشكّلت منهم، حسب إدوارد سعيد، شِبه مؤسّسة تضع قواعد مُلزِمة لكلّ مَن يَهمّ بمقاربة أي موضوع "شرقيّ". الجديد الذي بدأ الكشف عنه لم يعد خاصّاً بهذه القواعد المُلزِمة في مقاربة التاريخ ونشوء العقائد والآداب وهويات الأمم فقط، بل امتدّ إلى علم الآثار تحديداً، وأطلق حركةَ تحريرٍ يمكن أن نعتبرها حركة مقاومة أيضاً، نظراً للعقبات التي أقيمت في وجهها، والحروب التي تعرّضت لها، والتي وصلت إلى حدّ اغتيال علماء آثار، منهم بول لاب (اغتيل عام 1970)، وألبرت غلوك (اغتيل عام 1992). وكلا العالمين أميركيٌّ كان معنيّاً بالتنقيب في فلسطين، ومقاومة السرديات الصهيونية التي طمست وجود الشعب الفلسطيني في الماضي والحاضر على حدّ سواء، وأبرز ما قام به الثاني منهما كان تأسيس "معهد الآثار الفلسطيني"، الأوّل من نوعه في العالم العربي، في "جامعة بير زيت".
هذا الجانب الجديد، أي المقاومة والتحرير بوساطة سرديّةِ علم آثارٍ متحرّر من قبضة الخطاب التوراتي الاستشراقي، لم يأخذ نصيبه كاملاً في الثقافة العربية على الصعيد الأكاديمي والشعبي، مع أنه بدأ يحتلّ مكانة متميّزة في أجواء الثقافة الغربية، آخذاً شكل دحضِ نظرياتٍ وسرديات حوّلت الشرق، والعربيّ منه بخاصة، إلى شرقٍ توراتيٍّ خالص، وغمرتْ عالَم الثقافة الغربية، ووجّهت بوصلة غالبية مؤسّساته نحو اتّخاذ مواقف غير عقلانية دعمت وبرّرت استعمار فلسطين، وما تزال تدعمه وتبرّره إلى الآن، حتّى بعد أن بدأت أمواجها الصاخبة بالانحسار.
بدأتْ هذا الكشفَ التحرري مجموعةُ باحثين يعملون معاً في ما تُسَمّى الآن مدرسة كوبنهاغن، ومن أعلامها البارزين الأميركي توماس تومسن، صاحب كتاب "التوراة في التاريخ" (1999)، والاسكتلندي كيث وايتلام، صاحب كتاب "اختلاق إسرائيل قديمة" (1996)، والفلسطيني نور مصالحة، صاحب كتاب "فلسطين: تاريخ أربعة آلاف عام" (2018)، وآخرون. وفي اللغة العربية ساهم كمال الصليبي بقسط مهمّ في فضح تزوير عدد من المستشرقين، وعلى رأسهم وليم أولبرايت.
وحديثاً، هناك عدّة كتب للباحث أحمد الدبش من فلسطين، تفضح أضاليل المستشرقين، وخاصّة الذين يتّخذون الخطاب التوراتي سِراجاً، ويحاولون ــ عبثاً ــ البرهنة على أنّه كتاب تاريخ. وهناك كتابٌ مهمٌّ في الإنكليزية أصدرته نادية أبو الحاج تحت عنوان "وقائع على الأرض" (2001) لدى مطبعة "جامعة شيكاغو"، وقبلها كانت دراسات عالم الآثارالأميركي روبرت غلوك المنشورة في عدد من الدوريات. وهناك باحثون أميركيون وبريطانيون لهم مساهمات جيّدة في هذا الموضوع، ويمكن العثور على دراساتهم وكتبهم بالبحث على شبكة الإنترنت تحت عناوين مثل "نقد الخطاب التوراتي" أو "علم الآثار السوري - الفلسطيني" أو "نهب آثار وادي الرافدين" وغيرها.
ذهب بعض الغربيّين إلى حدّ نسب حضارات شرقية إلى أصل آريّ
وفي معاكسة لهذا السياق، تلفت النظر اتجاهات "عربيّة" تعود بين الفينة والفينة إلى ما أشاعه المستشرقون قبل قرن من زمننا هذا، في تجاهل لكل ما ظهر حتّى من نوادر عربية في هذا المضمار، فتُترجِم أو تقبس من مصادر ليست في متناول القارئ العربي، بحُسبان أنّها كشوفٌ جديدة، متجاهلة أنّ هناك "حركة مقاومة وتحرير" قائمة منذ سنوات، نشرت بعض مطبوعاتها بالعربية، ونشرت غالبية كشوفها باللغات الغربية.
من هذه المصادر التي ألقاها حتّى عالَم الثقافة الغربية جانباً، مؤلّفاتٌ تتحدث عن الأصول السومرية للحضارة المصرية، والكلام عن قوائم بأسماء ملوك الهند وسومر ومصر. وتصل هذه المصادر إلى درجة إقامة نظرية تقول إنّ فراعنةً حكموا الهند، أو سومريّين حكموا مصر، أو تجعل الملوك التوراتيّين هم ذاتهم ملوك سومر وأكد... وما إلى ذلك.
أبرز مصادر هذا التخليط الخيالي كتابٌ لعسكري بريطاني جرّاح، عمل في الهند، اسمه لورنس أوستن وادل (1854 - 1938)، وقد نشر كتاباً تحت عنوان "الحضارة المصرية: أصلها السومري والتحقيب الزمني الصحيح والأصل السومري للهيروغليفية المصرية" (1930). وجاء بعضٌ مِن العراقيّين المهووسين بحكاية أصلهم السومري، فترجموه عام 1999، وقدّم له الباحث خزعل الماجدي بالقول إنّه "كتابٌ مثير"! هذا الكتاب مثيرٌ بالفعل، ولكن ليس بمعنى أنّه كشفٌ علمي أصيل، بل بمعنى أنّه يقوم على تخيُّلاتٍ عجيبة لا صِلة لها بأيّ علم، اخترعَها هذا الجرّاح البريطاني، وحاول فيها عدّة أمور.
أوّلاً، نسبة ما سّماها الحضارة السومرية إلى الجنس الآري (!)، باستخدام أساطير الملاحم الهندية والعلاقات التجارية بين وادي الرافدين وساحل الخليج العربي وحضارتي هارابا وموهنجو دارو الهنديّتين، والأختام التي وُجدت هنا وهناك، والخلوص ــ من كلّ هذا ــ إلى أنّ السومريين آريوّن جاؤوا من الهند! وثانياً، نسبة الحضارة المصرية القديمة إلى السومريّين، باعتبار أنهم هم الذين "صنعوها". وثالثاً، نسبة اختراع الأبجدية للآريّين، على اعتبار أنّ السومريين، الذين هم آريوّن كما يدّعي، هم من اخترعوا الكتابة، وعنهم أخذها المصريّون!
ولدى هذا البريطاني أعاجيبَ اخرى، فهو يجعل البريطانيّين والإسكتلنديين من أصل "فينيقي"! وأفضل وصفٍ لهذا البريطاني هو ما أطلقه عليه كاتب بريطاني آخر، في العام 1925، في تناوله لكتاب لـ "وادل" يزعم فيه أن السومريّين الذين ينسبهم إلى وادي الهندوس هم فينيقيون أيضاً، حيث اعتبره تجسيداً لشخصية إنديانا جونز، التي تخوض مغامراتٍ خياليةً، مرّة بحثاً عن عنزة يوسف الملوّنة، ومرّة عن تابوت العهد الأسطوري... وهكذا.
الخلاصة أنّ كل ماجاء به لورنس وادل كان ينطلق من "مسلَّمَةٍ" عجيبة، وهي أنّ حضارات وطننا العربي مِن صُنْع غُزاةٍ أكثر تقدّماً، شأنها في ذلك شأن أيّ حضارة أخرى ــ كما يزعم ــ قديماً وحديثاً؛ ولا بد، بالتالي، من البحث عن الأصل الذي جاءت منه هذه الحضارة. هذا الأصل، بالطبع، هو الجنس الآري المقدَّس.
لم يأخذ التيار العلمي الذي يقاوم هذه السرديات حقه عربياً
إذن، كلّ ما هو حضاري لدينا، حسب تخيّلاته، يرجع إلى الجنس الآري المتفوّق. كيف؟ عن طريق الآريّين الذين ينحدر منهم السومريون، وعن طريق هؤلاء الذين وُلدت الحضارة المصرية على يدهم. صحيحٌ، بالطبع، أنّ هناك علاقاتٍ بين وادي الرافدين وسواحل الخليج، وكذلك بين وادي الرافدين ومصر، ولكنّ هذا لا يعني أن الجنس المسمّى "الآري" (أي الذي تنتمي إليه شعوب الغرب التي كانت ما تزال تعيش حياةً بدائية في الغابات حين كان الشرق مزدهراً بالحضارات) هو صانع حضارة سومر وبابل ومصر وهارابا وموهنجو داروا، التي يجهل أنّها سبقت وصول الآريين إلى الهند، كتابةً ونُظُماً وعقائد.
الطريف أنّ هذا النهج في التفكير القائم على التخيّلات هو ذاته الذي سار عليه السويسري إيريش فون دنكن، في ستينيات القرن العشرين، حين نسب أصول الحضارات البشرية كلها إلى وافدينَ من سكّان كواكب بعيدة، ودلّل على ذلك بما شاهد من عمائر غارقة في القِدم، عجز عن تفسير كيفيفة نهضتها، وبما ورد من قصص في التوراة اليهودية، وكأنّ هذه الأخيرة شواهد على أحداث "تاريخية"! وهو ما كان فعله حرفياً البريطاني لورنس وادل؛ أي الاستناد إلى أساطير التوراة وأساطير الملاحم الهندية، وخلْطِها بالمكتشفات الأثرية. ولكنْ، بدلاً من أن يجعل الآريين صُنّاعَ حضارة كوكب الأرض، كما فعل وادل، جعل فون دنكن غزاة الكواكب الأخرى هم من صنعوها.
وبالطبع لم تأخذ الأوساط العلمية بتخيّلات وادل مثلما لم تأخذ بتخيلات فون دنكن، وإن رأى فيها بعض الكتّاب باباً من أبواب الارتزاق، فأكثروا ــ في كُتب تُنشَر في بعض لغات الغرب حالياً ــ من إضافة عناصر أخرى أشدّ إثارةً إلى هذه الخلطة، أبرزها الربط بين أساطير الشعوب القديمة، سومرية وهندية وأزتيكية، على سبيل المثال، وبين مراكب فضائية لهابطين من الفضاء في الأزمنة السحيقة، علّموا البشرية الكتابة والصناعة والزراعة. بل وكاد بعضُ هؤلاء الكتّاب يقول إنّ راكبي تلك المراكب تدخّلوا في جينات "كائناتٍ" بدائية أرضية وصنعوا منها النوع الإنساني الذي نعرفه.
من هذه الكثرة المتكاثرة، كتابٌ لغريغ برادن عنوانه "مدونة الله: سرّ ماضينا ووعد مستقبلنا" (2005)، وكتابٌ أحدث للكاتب بول واليس عنوانه "الهرب من جنة عدن: هل يعلّم سِفر الخروج أنّ الله خلق الجنس البشري أم هندسته مخلوقات فضائية؟" (2020).
الأكثر دلالةً ولفتاً للنظر في هذه الخلطة، هو تحميل أقاصيص التوراة ورفعها إلى هذه المواقع وجعلها شواهد على ما يزعمون أنها "حقائق تاريخية". فكأنّ الخطاب التوراتي يجدّد نفسه، فيستعين على إثبات ما كان اختلقه من "تاريخٍ" للبشرية ــ ظهرَ تهافُتُه ــ بأساطير الشعوب القديمة، وبحكايا الهابطين من السماء. لكنّ عِلم الآثار وتاريخ الشرق العربي كشفا عن وهن منسوجات هذا الخطاب، وأصبحا على أبواب التحرّر من قبضة سرديّاته الخانقة.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين