"غروب الأولياء": الحركة السلفيّة في مصر بعيون فرنسية

30 يوليو 2024
يتتبّع تطوّر السلفية من عقيدة تتبنّاها أقلّية إلى واحدة من أهم تيارات الإسلام السنّي
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **التنافس الفكري في مصر**: يتناول النص تنازع تيارات فكرية متعارضة في مصر، حيث احتكر الحداثيون سابقاً القيم القانونية والثقافية، ثم ظهرت تيارات ماضوية مثل الإخوان والسلفية. اشتد التنافس مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الإعلام الخاصة.

- **دراسة ستيفان لاكروا**: في كتابه "غروب الأولياء"، تناول لاكروا تطور السلفية في مصر من عقيدة أقلية إلى مؤثر رئيسي، معتمداً على استجوابات شفوية ومنشورات الجماعة، مما جعل عمله بحثاً ميدانياً شاملاً.

- **نقد الدراسة**: يشير النص إلى مشكلات في دراسة لاكروا، مثل استخدام مصطلح "السلفية" بدلالات سلبية، وتضخيم الاختلاف بين السلفيين والصوفيين والأزهريين، مع التركيز الغربي على التشدّد الإسلامي وتجاهل الأصوليات الأخرى.

الواقع المصري شديد التعقّد ومن مظاهر تعقُّده تنازع تيّارات فكريّة متعارضة امتلاك أحقّية توجيه المجتمع ورسم المعنى الوجودي لمساره في التاريخ. فبعد احتكار الحداثيّين لسُلطة توليد القيم القانونية والثقافية، ظهرت تيارات ماضويّة، كحركات الإخوان والسّلفية، تقود توجّهات المجتمع في هذا البلد. لكنّها دخلت مُعترك التنافس حول كيفية هذه القيادة ومضامينها ووجهتها الأخيرة، لا سيما بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وشبكات الإعلام الخاصة التي يسّرت النفاذ ليس فقط إلى الداخل المصري بل والارتباط بمرجعيات عابرة للبلدان.

استمرّ تنافُس هذه التيارات فيما بينها طيلة القرن الماضي، كما استمرّ تفاعُلها خلال المحطّات الحاسمة من تاريخ مصر الحديث (فترة النهضة، والاستعمار الإنكليزي، والحقبة المَلكيّة، وثورة الضباط الأحرار، وطور القومية العربية وصولاً إلى الثورة المصرية والانقلاب بالرئيس السابق محمد مرسي عام 2013)، أكان ذلك مع الدولة أو مع سائر القوى الفاعلة مجتمعياً، كالنّقابات ومؤسّسة الأزهر والطرق الصوفيّة والكنائس المسيحية وهيئات الفنّ والثقافة، ولعلّ آخرها "تكوين".

تتسلّل مصالح فرنسا الاستراتيجية ومقاييسها في ثنايا البحث

هذا المشهد المتوتّر المتغيّر هو ما خاض غماره الباحث الفرنسي ستيفان لاكروا عبر كتابه "غروب الأولياء: تاريخ السلفيّة في مصر وسياساتها" ("منشورات سنرس"). وهو نتيجة أبحاث ميدانيّة تناول فيها انتقال السلفية المُحافظة من مجرّد عقيدة تتبنّاها أقليّة إلى "أهم مؤثّر في قلب الإسلام السنّي ونظام القيم فيه"، محلّلاً ما أطلق عليه: "نَحو خطاب وممارسة يحكم هذا التيار"؛ وهو مما عدّه مساهمة في دراسة الروابط بين الديني والسياسي من خلال النموذج المصري في الحقبة المعاصرة والراهنة. 

قُسّم هذا الكتاب إلى ستة أقسام استعاد فيها الجذور الأولى للحركة السلفيّة بهذا البلد، وتعقّب تاريخها أثناء وبعد الحقبة الناصريّة، ثم تناول تطوّرها إلى "دعوة" محلّلاً علاقاتها بمرجعيتها في المملكة العربيّة السعوديّة، ثم "ازدهارها" تحت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. وخصّص القسم الأخير لمواقف "حزب النور" إبان ثورة يناير 2011، وفيها تبنّى خيار البلاغة الشعبوية. وقد مُهِّد لهذه الأقسام بمقدّمة حول مفهوم "نحو الحركة السلفية"، باعتباره، مثل أيّ نَحْوٍ يحكم الخطاب، مجموعة من قواعد تضبط إيقاع الممارسة في التاريخ واللغة.

تشمل مصادر هذه الدراسة الاستجوابات الشفويّة التي أجراها لاكروا بين سنتي 2010 و2013 مع شيوخ السلفيّة، كما تشمل المنشورات التي كانت تدور في حلقات الجماعة وقتها، فضلاً عن الأمّهات النظريّة التي تعتمدها الحركة، مما يجعل عمله أقرب إلى بحث ميداني توسّل فيه بآليات الاستجواب والملاحظة والشهادات الشفويّة والاسترجاع التاريخي. كما استند إلى الدراسات القليلة التي أنجزت حول الموضوع.

وقد توخّت الدراسة نهجاً تاريخيّاً حيث استعاد ستيفان لاكروا جذور إنشاء "جمعيّة أنصار السنّة" عام 1926، حين كانت فرعاً للحركة الوهابيّة بمصر، إلّا أنّ هذا التأثير الخارجي ضعُف بمرور الوقت فصارت المرجعيّة مصريّة بحتة تمتح من أعمال مفكّري عصر النهضة الإصلاحيّين والسلفيين كرشيد رضا في مجلة "العروة الوثقى"، وهي التي بثّت الروح في علماء القرون الوسطى مثل ابن تيميّة، مُعمِّمةً تأثيره بفضل سهولة الطبع وسرعة انتشار الكتب.

اعتمادٌ على آليات الاستجواب والملاحظة والشهادات الشفويّة

كما تطرّق لاكروا إلى تميُّز هذه الحركة، على صعيد الفكر السياسي، بمهادنة الأنظمة المستبدّة وعدم الخروج عليها تركيزاً منها على تربية المجتمع ونشر العلوم الشرعيّة وتلافياً لأية مواجهة مع السلطات القائمة. إلّا أنه أشار إلى أنّ هذه الأنظمة لم تتورّع عن استخدام هذا التيار لإضعاف حركة الإخوان المسلمين الذين يُعدّون، في نظرها، أخطر من غيرهم لتهديدهم السلطة بشكل مباشر.

مع ذلك، أكّد الكاتب مدى التنوّع العميق الذي يسمُ هذا التيّار بسبب اختلاف قاداته وتنوع توجهاتهم وكيفيات تعاملهم مع الأحداث الكبرى وطُرق التغلغل في المجتمع والتعاطي مع السلطات. فهذا التيّار أبعد ما يكون عن أيديولوجيا ثابتة أو أفكار جامدة، إذ أظهر أتباعه خلال العقد المُنصرم حيويّة واضحة في "التموقع" إزاء الأحداث المتعاقبة مع فهم دقيق لآليات التكيّف الذكي في سياق شديد الاضطراب على الصعيديْن الداخلي والإقليمي.

تتصل أُولى مشكلات هذه الدراسة باستخدام مصطلح "السّلفيّة" ذاته، الذي يُحيل في المخيال الفرنسي على خطر داهم يُهدّد القيم الجمهوريّة وعلى أصوليّة دوغمائية تُعارض الحداثة السياسيّة والإنسانية، بحيث يأتي القارئ بخلفيّة سلبيّة قبل حتى أن يطّلع على مضمون الكتاب. ولئِن سعى الباحث إلى التخفيف من هذه السلبية، فإن انطباع القارئ الفرنسي سيظلّ على حاله، لأنه سيربط المصطلح لا محالة بما يراه في المدن الفرنسية وضواحيها، لا بما يُشير إليه في السياق المصري.

كما يُلاحظ أنّ الباحث بالغ في تأكيد غياب ما سمّاه: "الأولياء"، أي: القائمين على العلوم الشرعية في الأزهر وشيوخ الطُّرق الصوفيّة وسائر الدُّعاة، عن المشهد الديني والقيمي، في حين أنّ الواقع يُكذّب ذلك، إذ لا تزال مؤسسة الأزهر، عبر وسائطها المتعددة، المرجعية الأولى في الفتوى والتدريس والارتباط الوثيق بشرائح المجتمع وبمؤسسات الدولة وحتى بأقاصي الريف. ويقال نفس الشيء عن الطّرق الصوفية التي لا تزال تهيمن على قطاعٍ كبير من الفئات الاجتماعيّة بأكثر من ست وسبعين طريقة مسجّلة رسمياً، فضلاً عن خطب مشايخها التي لا تنقطع.

ستيفان لاكروا - القسم الثقافي
ستيفان لاكروا

كما أن تضخيم الاختلاف بين السلفيين والصوفية والأزهريين مصطنع ومضخّم، فهؤلاء جميعاً يتّفقون في العديد من المقولات الدينية، أولاها الاستناد إلى "السَّلف الصالح"، وعدم القول بالخروج على سلطة الحاكم والتركيز على التربية الاجتماعية ونشر العلوم الدينية وتزكية الروح، إذ المرجعيات الفقهيّة والأخلاقية وحتى العقديّة واحدة، وغالباً ما تتولّد الفروق عن سوء فهم لفظي.

ولا نظنّ، أخيراً، أنّ استعارة "نحو الحركة" قد أفادت كثيراً في الإضاءة على تفاعُلات هذا التيّار وتحوّلاته، فهو مثل نظائره يعمل ضمن قوانين اجتماعيّة تحكُم سائر الظواهر، وليس سعي السلفية إلى "الصفاء السلوكي ورفعة الأخلاق ونقاء العقيدة" حكراً عليها، بل هو مشترك لدى سائر الفواعل الاجتماعيّين الذين ينشطون في الساحة. كما لم تُضف هذه الاستعارة شيئاً ذا بال في تحليل تحوّلات الحركة، بل بالعكس زادتها غموضاً وولّدت تعالُقات مبهمة. كان الأحرى اتّباع المنهج التاريخي الصارم مع تحليل تعدديّة العوامل المؤثّرة في كلّ مرحلة دون المبالغة في استنتاجات عن ظواهر ما زال بعضها قيد التحوّل، ولم تُحسم المعارك بعد.

ولا نفهم أخيراً الإصرار على البحث في التشدّد الإسلامي، منذ أزيد من عقدين، كما لو كان الأصولية الوحيدة في العالم ثم الكتابة عنها مع ما يستتبع ذلك من تضخيم إعلاميّ يجعل منه خطراً على مصر ثم على فرنسا؛ وهو ما يذكّرنا بكتابات الفيلسوف الفرنسي رجاء غارودي: "أصوليّات" (1991)، الذي انتقد فيه التركيز الغربي على التشدّد الإسلامي وصمته المُريب عمّا يوجد في سائر المجتمعات والثقافات الإنسانية الأخرى من تطرّف - ولذلك ورد العنوان بصيغة الجمع - كاليهودية والكاثوليكية في أوروبا التي لا تختلف في عُنفها عمّا وصلت إليه أقسى الحركات المتطرّفة عندنا. لكن لا تُسلّط الأضواء المُغرضة إلّا على أصوليّاتنا، في استمرار لعقليّة الهيمنة والاحتقار التي يحملها في لاوعيهم مثقّفو الغرب وسلطاته.

وهكذا، فالكتاب قراءة أخرى لظاهرة عربية بعيون غربيّة، تُسقط عليها مقولات اشتُقّت من درس مجتمعات مختلفة. وتحت ستار البحث العِلمي وبعض مفاهيمه الفضفاضة، تتسلّل مصالح فرنسا الاستراتيجية ومقاييس ما تعدُّه هي خطراً داهماً أو حِلفاً مساعداً. لكن كم أخطأت الحسابات واتّضحت هشاشة مثل هذه الدراسات بسبب إهمال ما يقوله المسلمون عن ذواتهم أو ما يستنتجونه هُم من دراسة ظواهرهم؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون