شيءٌ مِن وجهي
شيءٌ من وجهي ذابَ بالأسفل.
ذراعي تسلّلتْ كطائرٍ مائيٍّ لِالتقاطه،
لرفعهِ إلى الهواء
الجالِس على الأريكة،
وإطلاقِه فوق شجرة الميلاد الملوَّنة، حيث أجراسٌ صغيرة ترنُّ،
كلّما خَطَتْ أقدامُكِ مُضوّعةً على الحافة.
عِطرُ النظرةِ الأسيرة تلاشى
عطرُ الشَّعر النيلوفري الطويل،
عطرُ اليدِ العازفة على خيوط المطر،
هبطتْ خَلفي، عميقاً في الغابة،
في مساربَ لمْ يَعُدْ مِنها أحَد،
ظلامُها النّيليُّ الغزيرُ، مثل قيثارةٍ مُثقَلةٍ بالثمار، يضيءُ
غريقَ المِرآة المقفلة.
■ ■ ■
لا أحد
الحَجَرُ مُغْلقٌ. صمتُ غرفاتِه الشاسعة
التي لمْ يطأها أحَدٌ، أدهشَ فيزوافا شيمبوريسكا.
المِرآةُ،
التي تحتلُّ حَيِّزاً هائلاً في البيت،
تنطوي على بحيراتٍ ناصعة البياض، على ممرَّاتٍ مكسوَّةٍ
بالثلج والغِناء، لكنْ لا أحدَ يُرى هُناك عابراً،
لا أحدَ يقفزُ مِن مَهْدِه المغمور بالمياه
وينثُر عن يدَيه ظُلُمات الليالي الصامتة.
لا أحدَ يمتطي صهوةَ حِصانِه الأبيض
ويَعبُرُ إلينا في هذه الضفّة، التي نُراكِمُ فيها عاداتِنا الصَّغيرةَ:
نَمتصُّ النّدى مِنْ أوراق الشّجر، نلوكُ الهواء.
بورخيس الرّائي الكبيرُ بيننا،
عبرَ إلى هناك: بقيتْ عيناه مُضيئتين،
لكنّه لم يستطِعْ العودة إلى بيتنا الدّافئ
بغير عصاهُ وبضْع كلمات.
"ما جَدوى أنْ تكونَ ملاّحاً، لا يعبُرُ حتّى النهاية"
تسألُ شيمبوريسكا مِن خلف الحجَر.
■ ■ ■
المِـرْآةُ بالقاع
المِرآةُ بالقاع. الأسماكُ تعبرُ عتْمتَها مُتلألِئةً،
فتنفلِتُ مِن شبكتي، أنا الصيّادُ، رغْم أنّي أستيقظُ باكراً،
قبْلَ يقظةِ الأجنحة نفسِها،
وسَريان البجعاتِ في مياهِ القصائد.
أستيقظُ على يَدَيْن بارعتينِ في تدبير خدَعٍ بصَريّةٍ
لا تخْدعُ غيرَ عَيني،
أمّا شَبَحي الماضي بزعْنفتهِ المِروحيّة
وظَهرهِ اللامع،
فيظفرُ مَرّةً أخرى بِسَمكةٍ ذهبيّة تحذرُ غِنائي
وتظلُّ، على صخرتي، ترقبُ هُبوط الليل،
لتخرجَ إلى مَرْجها
الأشبهِ بِقوس قُزح غريقٍ.
المِرآةُ ستبقى مِرْآتي، طالَما أنّ مياهي لا تُفضي
وقنديلي يدْفنُ وحْيَهُ الأبيضَ بقلبه،
طالما أنّ الأسماكَ تَنْسابُ في مرْآتِها الكبيرة
مَرْئيّةً ولا مَرْئيةٍ، ضَوْؤُها يلمَعُ هناك،
حيثُ يَغرقُ شبَحي في عَتْمتِهِ، مُتضرِّعاً لتقلّباتِ المَوج
خَلْفَ مَحارةِ نبتون.
■ ■ ■
بَيتٌ غريبٌ
لا تُفتَحُ نافذةٌ ولا تُغلَق، ليس ثمَّة نافذة في المِرآة.
مِياهٌ لا مرئيّة تُغرِقُ وُجوهاً،
مِنْ بين ثناياها، تَمْتدُّ يَدٌ ماكِرةٌ تُزيحُ الجدرانَ، تُقيمُ مكانَها ورقاً أزرقَ،
عَليه تطفو أدنى رَعْشةٍ.
ورقٌ يَهفو إلى الوجوهِ النائية،
الوجوهِ الحَزينة،
الوُجوهِ المُلْتفِتة وراءَها بِلا أدنى هَلَعٍ.
في المِرآة ليس ثمّة نافذةٌ، ما مِن جُدران،
وَحْدَها وَمْضةُ طيفٍ، تَنْبعُ مِن الماء،
تَمضي بوَجهي إلى بيته الغريب.
* شاعر من المغرب