في مسرحيته "هنري الرابع" (1598)، ابتكر وليم شكسبير شخصيّة فالستاف. وكان فالستاف، كما صوّره الشاعر والكاتب المسرحيّ الإنكليزي (1564 - 1616)، رجُلاً جباناً، يتفاخرُ بانتصاراتٍ لم يحقّقها، ويتباهى بأشياء لم يقمّ بها في حياته. إنّه، باختصار، شخصيّةٌ مزيّفة ومزوِّرة للواقع.
انطلاقاً من هذه الشخصية، ومن فكرة تزييف وتزوير الواقع، سيطوّر كلٌّ من المخرجَين والممثلَين الكتلانيين، ناو ألبيت ومارسيل بوراس، فكرة عملهما المسرحي الجديد "فالستاف: موت ربّات الفن"، الذي يُعرض حالياً على خشبة مسرح "فاي إنكلان" في مدريد، ويستمرّ حتى بعد غد الأحد.
حبكةُ المسرحية بورخيسية بامتياز: أندريه فيكيفيتش يعملُ في تزوير الأعمال الفنّية، وفي عمله تصميمٌ غريبٌ على التقاط جوهر الأعمال التي يزوّرها بشكل مثالي. لقد نجحَ في خلق كذبة؛ ليس عن هويته الخاصّة فقط، ولكن عن كلّ شيء من حوله. تدريجياً، ستتحوّل هذه القدرة العالية التي يتمتّع بها إلى هاجسٍ يقوده، في نهاية المطاف، إلى الذهاب بممارسته التزويرية إلى حدود غير متوقَّعة. ستثير أعماله المراوِغة غضبَ واستياء بوريس كاتشينسكي، خبير الفن المعروف وأحد ضحاياه. وعندما يحاول إلقاء القبض عليه، سيدرك، متأخّراً، أنّ الأدلة التي يتبعها قد زُوّرت هي أيضاً، لدرجة أنه سيكون من المستحيل عليه التمييز بين الحقيقة والباطل، الواقع والمحاكاة.
يُستخدم التزييف بوصفه محرّكاً إبداعياً وحالة جديدة من العبقرية
تأتي المسرحية في محاولة لتقديم جواب عن سؤال قديم: هل يمكن أن تتفوّق المحاكاة على الأصل؟ يحاول مخرجا العمل وكاتبا النص أن يقدّما جواباً يتناسب مع الزمن الجديد الذي نعيشه، والذي صار فيه المال بديلاً عن السياسية، وانتصر الاقتصاد فيه على الثقافة، والتجارة على الفكر. صرنا نشهد جميعاً، في هذا الزمن، انهيار الروايات التاريخيّة العظيمة، تدهورَ الشعر، واستبدال مفهوم الأصالة بمفهوم المحاكاة.
ربما هذه الأفكار كلّها ستظهر بشكل جليّ في المونولوغ الذي يتحدّث فيه أندريه مع نفسه، حيث يظهر جليّاً كيف كانت الأفكار والقيَم الأصيلة سابقاً تُشكّل جوهر العلاقات بين البشر والشعوب والدول، وتدير السلوك الإنساني على مستوى الأفراد والجماعات؛ لقد كانت، بشكلٍ أو بآخر، تعطي معنىً لوجود الكائن الإنساني في هذا العالم. لقد تدهور هذا كلُّه اليوم، هوَت القيم الأصيلة، وانحطّت الفنون وجمدت: لا فكرَ، بل جمودٌ وتدهورٌ وانحطاطٌ مستمرّ.
على مدى ثلاث ساعات، تتخلّلها موسيقى مثيرة وروح الدعابة ومطاردات مضحكة، سيتابع المُشاهد لعبةً لا يمكن التنبّؤ بها، حيث تتبع الأنواع بعضها البعض في تكتّل أصيل وحقيقي: من العروض الراقصة إلى الإثارة وصناعة الفيديو. غير أنّ الفكرة التي تحرّك حبكة المسرحية مغرية بلا شكّ: في هذه الأوقات من المحاكاة، باتت الأصالة نفسها تزييفاً وانتحالاً، وبالتالي يُستَخدم التزييف بوصفه محرّكاً إبداعياً وحالة جديدة من العبقرية وشكلاً جديداً للحقيقة.
ولكن، بالوصول إلى هذه النقطة، هل معنى هذا أنّ المسار الوحيد الذي بقي أمام الإنسانية هو مسار النسخة لا الأصل، المحاكاة لا الإبداع، الوهم لا الحقيقة؟