يضع العديد من مؤرّخي الفن فرانس هالز في مكانة موازية لمواطنه رامبرانت الذي عايشه خلال الفترة نفسها التي خضعت فيها هولندا، بلدهما، إلى استعمار إسباني. لكنّ الأوّل كان شغوفاً بضوء النهار وانعكاس أشعّة الشمس على الوجه، بينما اهتمّ الثاني بالنور الخافت في الليل.
لم يحظَ الفنان الهولندي (1582 - 1666) بالشهرة التي حازها رامبرانت أو غيره لأسباب عديدة، منها عدم مغادرته مدينة هارلم حيث عاش سنوات عديدة قبل رحيله، إذ رفض الإقامة في أمستردام من أجل رسم الشخصيات الأرستقراطية ورجال السياسة، ورأى أنّ عليهم أن يذهبوا هم إليه، كما انتقد كثيرون أسلوبه في رسم نظرات حادّة وملامح تبعث على الرعب أحياناً.
تُبرز رسوماته حيوية الوجه التي ستُلهم الانطباعيين بعد مئتي عام
حتى الثلاثين من كانون الثاني/ يناير المقبل، يتواصل في متحف "مجموعة والاس" بلندن المعرض الاستعادي "فرانس هالز: بورتريه الرجال" الذي افتُتح في الثاني والعشرين من الشهر الماضي، ويُضيء أسلوبه الخاص في التحرّر من السكون والجمود في رسم وجوهه.
كان رسّامو العصر الذهبي في هولندا، والذي يُطلق على الفترة الممتدّة بين منتصف القرن السادس عشر ونهاية القرن السابع عشر، يميلون إلى إظهار الرجال من دون عيوب أو تعابير وجوه تخرج عن التجهّم والانضباط، فيما ركّز هالز على الحيوية والحركة والتي ستُلهم الانطباعيين بعد حوالي مئتي عام.
في تلك البورتريهات، يبتسم الرجل في وضع معقّد ودقيق للغاية بحيث يصعب معرفة المكان الذي جلس فيه بالضبط الرسّام، كما أن العيون تقوم بالدوران في حركة غير معتادة خلال تلك المرحلة، مع غمزة أو تلميحات تنزع نحو الجرأة، وتمنح الرسم جاذبية من نوع مختلف، كما تتّسق تلك التعبيرات مع الأزياء التي كانت ترتديها تلك الشخصيات، حيث الزركشات فوق الذراعين والصدر بألوان نحاسية وبقماش الدانتيل.
يرسم هالز في إحدى اللوحات المؤرّخ والسياسي الهولندي إسحق ماسا، الذي يستدير فيها إلى الوراء قليلاً في كرسيه، ويلقي نظرة إلى اليسار، فتظهر عينٌ في ضوء النهار، بينما تتوارى الثانية في الظل الداكن، ويبدو فمه نصف مفتوح في حالة بين التحدّث وأخذ النفَس، ويثبت ذراعه اليمنى على ظهر الكرسي، وتتدلّى من أصابعه سيجارة. ويقترب هذا الرسم من رسومات أُخرى تفترض وجود حوار بين الرسام والشخصية المرسومة، وهي وضعية بدت مغايرة آنذاك.
رغم أن المعرض يركّز على البورتريهات الذكورية، إلا أن تقديم المنظّمين يشير إلى تفلّت هالز من تلك الصورة النمطية التي فُرضت على النساء أيضاً، حيث رسم في لوحاته امرأة بملامح قاسية أو بابتسامة وضحكة تُبرز قوة شخصيتها وتمرّدها على الأعراف، ويجعل المتلقّي يتعاطف معها وإن كانت هيئتها تخالف الوقار والصمت المعهودين، كما سمح لرجاله ونسائه بالتدخين أو تناول الشراب كما توضّحه لوحاته.
وبالأسلوب ذاته، رسَم بورتريهاته الجماعية التي احتوت عدّة شخصيات تتفاعل في ما بينها، وقد تظهر عليها العصبية أو الإفراط في الشراب أو التحدّث أو غيرها من السلوكيات التي كان يُنظر إليها كخطيئة أو فعل يجب إخفاؤه في اللوحة، لكن هالز أقنع الكثيرين بالوقوف أمامه ليرسمهم على طريقته التي وفّرت له حضوراً في المشهد التشكيلي الهولندي، وأرباحاً جيّدة، لكنها انتهت به إلى الفقر الشديد.
في واحدة من أشهر بورتريهاته، يظهر تسعةُ عشر جندياً من رُماة "فرقة سانت جورج" التي كانت تؤدّي مَهامَّ قتاليةً مدفوعة الأجر، وهم يرتدون أزياءهم العسكرية ويحملون رماحهم، ويتبادلون الأحاديث والنظرات كما لو أنّهم لا يقفون متأهّبين من أجل رسمهم.