فرنسيسكا وايد: خمس كاتبات في ميدان مكلنبرغ

03 نوفمبر 2020
جانب من ميدان مكلنبرغ منتصف القرن العشرين (Getty)
+ الخط -

تخيّل خمسة أسماءٍ نسوية رائدة مجتمعة في بورتريه جماعي: الشاعرة الحداثية هيلدا دوليتل، والروائية البوليسية دوروثي سايرز، والمترجمة جين إلين هاريسون، والمؤرخة الاقتصادية والمذيعة إيلين باور، والروائية فرجينيا وولف. جميعهنّ انتقلن إلى ميدان مكلنبرغ؛ ينشدن الاستقلالية، والحق في التحدّث، والمشي، والكتابة بكل حريّة، وعيش حياة مفعمة بالحيويّة.

في كتابها "أرقُ الميدان: خمس كاتبات في لندن ما بين الحربين"، الصادرة طبعته الرئيسية بداية هذا العام عن دار "فابر وفابر" البريطانية، وصدر ثانية في طبعة أميركية في نيسان/أبريل الماضي عن "منشورات تيم دوغان" في نيويورك؛ تحكي الصحافية البريطانية فرنسيسكا وايد عن حياة مجموعة من المثقفات؛ أقمن جميعًا في ميدان مكلنبرغ -الجوهرة المعمارية الجورجية المخفيّة في قلب لندن- على مشارف منطقة بلومزبري، في أوقات منفصلة من تلك السنوات الصعبة والتي شهدتها القارة العجوز ما بين الحربين العالميتين.

بالرغم من أنها عاشت طوال حياتها في لندن، تعترف الكاتبة أنها لم تسمع بميدان مكلنبرغ؛ إلا عن طريق الصدفة ذات مساء من صيف 2013. فقديماً كان يعدّ هذا الميدان مكاناً مظلماً في قلب لندن، لكن مع مطلع القرن العشرين؛ تغيّر الوضع وأصبحت منطقة بلومزبري ككل، مرادفة لليسار والحداثة؛ يسكنها الطلبة والنشطاء والثوّار. لذلك، جاءت كل واحدة من هؤلاء الكاتبات إلى مكلنبرغ؛ بآمال كبيرة وطموحات ثابتة لتحقيق الذات. فكانت مصائرهن مختلفة وكذلك فترة إقامتهن.

يقدّم الكتاب لوحة دقيقة للندن في فترة ما بين الحربين

فالشاعرة الأميركية دوليتل والروائية سايرز؛ أقامتَا في الميدان عندما كانت حياتهما المهنية بالكاد قد بدأت. أما وولف وهاريسون فقدمتا للمكان في نهاية مشوارهنّ. سايرز ووولف أمضيتَا عامًا واحدًا في الميدان، بينما كانت باور الأكثر تعميرًا في مكلنبرغ، حيث قضت عقدين من الزمن هناك.

المثقفات الخمس تجاوزن جميعاً الحدود في الشكل الأدبي، والمعايير المجتمعية؛ فقد رفضن السماح لجنسهن بإعاقتهنّ، وكنّ مصمّمات على إيجاد طريقة مُختلفة للعيش، طريقة يكون فيها لعملهن الإبداعي الأسبقية. وتساءلت كل واحدة منهن: لماذا ينظر للنساء على أنهنّ "فائضات" عن الحاجة؟ لذا فقد تحدين هذا المصطلح وحاربن لسنوات؛ من أجل إزالة هذه الفكرة في المجتمع وإعطاء الأهمية المستحقة للنساء، وأخذهنّ بالجدّية المطلوبة.

تلتقط مؤلفة الكتاب قاسماً مشتركاً آخر بين النساء اللواتي يتناولهنّ عملها، حيث تلفت إلى أنهن في مرحلة ما؛ حُرمن من الحياة التي كُنّ يبحثن عنها، ولم يحصلن على نفس الفرص التعليمية التي تمتع بها إخوتهن، ولاحقاً كان يتم إدخالهن في وظائف أدنى مرتبة، أو تدفع لهن أجور أقل من نظرائهن الرجال. أو يتم تميّيزهن على أنهنّ من الدرجة الثانية من قِبل الجامعات؛ التي رفضت حصولهن على الشهادات الرسمية.

مع ذلك فقد عقدن العزم على البحث، والكتابة، والنشر؛ ولكن مثل هذه الأفعال من تأكيد الذات كانت قابلة لإمكانية الرفض؛ لذا كان عليهن إقناع الآخرين بأن عملهنّ قيّم، وقبل ذلك كان عليهنّ أولاً إقناع أنفسهن والإيمان بقدراتهن.

يضيء المحاولات الأولى لإزالة النظرة الدونية ضد النساء

لماذا بلومزبري بالتحديد؟ تتساءل المحررة في مجلة "وايت ريفيو" اللندنية، ما الذي شجّع هؤلاء النساء الرائدات على القدوم إلى هذا المكان تحديداً من لندن؟ اِختيار المكان لم يكن اعتباطياً أو مصادفة، تجيب وايد؛ فقد كانت لندن بين الحربين؛ مدينة سريعة التطوّر، وكانت المنازل الخاصة تُهدم لإفساح المجال للمحلات الزجاجية، في حين كان الترام الكهربائي وعدد السيارات ارتفعت مقارنة بالعربات التي تجرّها الخيول. كان وسط لندن، قلب إمبراطوية عالمية، صورة مصغّرة لأوروبا الأوسع. ومنطقة بلومزبري؛ هي مركز الحياة الفكرية في لندن، وكانت تضم أول مؤسسة للتعليم العالي للنساء (كلية السيدات في ساحة بدفورد) والمنطقة ككل كانت مشهورة بدور النشر، وبمكتباتها الزاخرة بالمخطوطات النادرة.

وفي قلب بلومزبري؛ كانت غرفة القراءة في "المتحف البريطاني"، مفتوحة للجميع للقراءة والدراسة مجانًا. وقد جعلت هذه الغرفة من بلومزبري ملتقى ديمقراطيّاً يرحّب بالكتّاب والمثقفين، لمركزها ورمزيتها. 

يصف الشاعر البريطاني، ريتشارد ألدينغتن، زوج الشاعرة هيلدا دوليتل، سنوات ما بين الحربين بـ"الهدنة الطويلة". وخلال هذه السنوات؛ واجهت النساء الخمس، المشاكل والأفكار التي شغلتهن طوال فترة عملهن وتواجدهن في مكلنبرغ؛ فأنتجن كتابات رائدة، وأعمالا استثنائية. ويرد ذكر أسماء الكاتبات في فصول هذه السيرة؛ مرتّبة حسب الأقدمية في الإقامة في الميدان. حققت هيلدا دولتيل (1886-1961) -المعروفة بناء على طلب صديق طفولتها عزرا باوند بـ"هـ.د."- من خلال مسيرتها الطويلة؛ سمعة كواحدة من أعظم الشاعرات في جيلها، وفي عام 1960؛ أصبحت أول امرأة تُمنح وسام الجدارة للشعر من قبل "الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب" تقديرًا لعملها المبتكر والمعقّد؛ الذي استحضر الجنس والأسطورة في قالب حداثي.

قصة حياتها، عبارة عن محاولات؛ للخروج من ظل الرجال الذين عرفتهم في حياتها - بمن فيهم الشاعر البريطاني الذي انهار زواجها معه- وإنشاء هوية بشروطها الخاصة. وهو صراعٌ متجذّر في ميدان مكلنبرغ.

"أنت لا تعرف ما يعنيه أن تكون عالقًا من أجل المال"؛ تكتب دوثوري سايرز (1893-1957)، عن صعوباتها المالية الأولى التي واجهتها في العيش في منطقة بلومزبري، مع ذلك تقول: "بكل بساطة يجب أن أتمسك بلندن قدر المستطاع. إنها المكان الوحيد الذي يعنيني. وأنا أحبها". تقول ذلك رغم أن لندن كانت في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى مباشرة، مكانا بائسًا، والشوارع مسكونة بجو من الكآبة والاضمحلال. وقتها؛ كانت سايرز تسعى لمحاولة العيش بقلمها وكتاباتها.

لم تتوقع، مترجمة "الكوميديا الإلهية" لدانتي أليغيري؛ أن تحقق روايتها "ليلة غاودي" الإشادة الشعبية والنقدية فور صدورها؛ فقد حصدت النجاح التجاري، وعُدّت من أكثر رواياتها شعبية حتى اليوم. وهي أول رواية نسوية بوليسية؛ وفيها احتفال بالتعليم والاستقلالية والحرية الفكرية. 

أرق الميدان

في الوقت الذي قدِمت فيه سايرز لمكلنبرغ؛ كشابة في مقتبل العمر والأمل يحذوها بمشوار مهنيّ واعد. وصلت جاين هاريسون (1850-1928) الميدان وهي بعمر الـ75، لم تكن لتبدأ حياتها، ولكنها كانت تبحث عن ولادة جديدة، لا تقل إلحاحا عن قدومها في وقت متأخر.

فالعالمة الكلاسيكية هي الأكثر دهشة من بين الخماسي الذي ورد في الكتاب؛ قررت ترك الأوساط الأكاديمية، واتباع حياة راديكالية جديدة. غادرت كامبريدج وهي في سن الـ 72 من العمر؛ لقضاء السنوات الخمس الأخيرة من حياتها وسط مجتمع من المنفيّين السياسيين الروس في باريس وبعدها في بلومزبري، كان تحوّلاً دراماتيكياً. "لم أفهم أبدًا ما حدث في نهاية حياتها"؛ يكتب صديق لها. قدّمت جهود هاريسون؛ لإعادة قراءة التاريخ من خلال عدسة الجنس والسلطة تشجيعا خصبًا للكتّاب الحداثيين؛ لتجريبهم الخاص لأشكال جديدة.

تسافرُ إيلين باور (1889-1940) كأول امرأة تحصل على زمالة السفر "ألبرت كان"؛ وهي منحة موّلت العلماء لاستكشاف العالم لمدة عام: "من خلال دراسة ومقارنة الأخلاق، والعادات الوطنية، والمؤسسات السياسية، والاجتماعية، والدينية، والاقتصادية في البلدان الأجنبية؛ على أمل أن  يعودوا مؤهلين بشكل أفضل للمشاركة في تعليم مواطنيهم." وصفت باور المتبرع وصاحب المنحة: "مصرفي فرنسي مستنير أعطاكِ ألف جنيه إسترليني، وأرسلك حول العالم، مع تعليمات لتوسيع عقلك الأكاديمي الضيّق".

اختارت فرنسيسكا وايد؛ الفائزة بجائزة "توني لوثيان" في نادي السيرة الذاتية، أن تبدأ وتنهي كتابها هذا مع فرجينيا وولف (1882-1941)؛ الذي هو بالمناسبة، تكريمٌ جزئيّ لصاحبة "السيدة دالاوي". 

في كتابها "غرفة تخصّ المرء وحده" -الذي يعدّ بمثابة مانيفستو الحركة النقدية النسوية في القرن العشرين- كتبت فرجينيا وولف: "إذا أرادت امرأة الكتابة فيجب أن تكون لها غرفة ودخل منتظم مهما كان ضئيلاً". حثّت وولف النساء على تطبيق فلسفة كتابها؛ حرفيًّا ورمزيًّا على حدّ سواء؛ ذلك الترتيب من شأنه أن يساعدهن على العيش، والعمل، والحب. وطبعاً، الكتابة بحرية ودون حواجز. إذا كان على النساء أن يلعبن دوراً ذا أهمية في المجتمع فإن الترتيبات المنزلية -تصرّ وولف- يجب أن تناسبها وتدعمها.

"كيف تستمر وتمضي قدماً من خلال الحرب؟"؛ سؤالٌ طرحته صاحبة "غرفة يعقوب" بعد عشرة أيام على انتقالها لميدان مكلنبرغ. لكن طوال عام 1939؛ الذي قضته في الميدان، أكملت وولف "مجموعة مذهلة من المشاريع"؛ بما في ذلك سيرة رائعة عن صديقها القديم، الرسام والناقد، روجر فراي، وروايتها "بين الأفعال"، وبدأت ترسم مذكراتها الخاصة، فضلاً عن تدوين ملاحظات لدراسة جديدة في الأدب الإنكليزي. إن السنة التي عاشتها فرجينيا وولف في ملكنبرغ والتي انتهت بموتها؛ كانت مليئة بالنشاط والصداقات الجديدة والقديمة والمشاريع المنجزة والمؤجلة.

"لا أعتقد أن شخصين كان يمكن أن يكونا أكثر سعادة مما كنا عليه"؛ هذا آخر ما كتبته وولف لزوجها. قبل أن تتوجه لنهر أوس، واضعة حجرًا كبيرًا في جيب معطفها، وملقية بنفسها في الماء، وهي في عمر الـ59. قبل ذلك قالت: "لقد فقدتُ كل قدرتي على صياغة الكلمات، لا أستطيع أن أفعل أي شيء بالكلمات".

كانت لندن، في تلك الحقبة، لهؤلاء الكاتبات والمفكرات؛ متنفّساً ومكاناً لإثبات الذات، والعيش باستقلالية. إنّ الوقت الذي أمضينه هناك في ميدان مكلنبرغ، كان تكوينيّاً ومحطة مهمّة في حياتهن. واتفقت هؤلاء الرائدات؛ على أن الهياكل التي أبقت المرأة خاضعة لفترة طويلة هي هياكل وهميّة وقابلة للتغيير. فهنّ أردن في كتابتهن وأساليب حياتهن كسر الحدود وصياغة سرديات جديدة للمرأة، وإنشاء طريقة للحياة تسمح لهنّ بتحقيق إمكاناتهن، وإيجاد علاقات من شأنها أن تدعم عملهن وتسييرهن للمنزل؛ ولكن لم يكن الأمر سهلاً دائماً. إن حياتهن في الميدان؛ أظهرت التحديات الشخصية والمهنية التي قابلت وواجهت -ولا تزال تواجه- النساء اللواتي يرغبن في إسماع أصواتهن.

المساهمون