إذا كانت اليقظة، ومعها النهار وضوؤه، قد اقترنت تاريخياً بالمعرفة والحقيقة والعقلانية، سواء في تاريخ الفكر الغربي أو حتى العربي، فإنّ النوم، ومعه عوالم الليل والعتم، لطالما جرى ربطه بالمجهول والملغِز وحتى الغرائبيّ، وهو ربما ما يشرح قلّة الاشتغالات الفكرية حول هذه الحصّة من حياة الإنسان التي يقضي فيها أكثر من ثلث يومه، وقسماً كبيراً من عُمره، أي النوم.
نقصٌ اشتغل عددٌ من المؤلّفين في السنوات الأخيرة، مثل "كتاب النوم" للمصري هيثم الورداني، و"الليل: العيش بلا شاهد" للباحث الفرنسي ميكائيل فوسيل، أو "لا نوم" لمواطنته ماري داريوسِيك. وضمن هذا السياق يأتي العدد الجديد من مجلّة "فلسفة" الفرنسية الشهرية، والذي يدور حول ثيمة النوم، بمشاركة العديد من الباحثين والكتّاب الفرنسيين.
تنطلق مقدّمة العدد من التناقض، في يومنا هذا، بين تسارُع الحياة، وكثرة المعلومات، ووسائل التواصل، والتعلُّق بالشاشات (من حواسيب وهواتف محمولة وغيرها)، وبين رغبة الإنسان وحاجته إلى الراحة ومنح جسده وقتاً ليستعيد فيه قواه، حيث تشير الدراسات إلى أن البشرية لم يسبق أن عانت من قلّة النوم كما هو الحال في يومنا هذا.
ويشمل ملفّ العدد مجموعةً من اللقاءات، من أبرزها ذلك الذي أجرته المجلّة مع الباحث ميكائيل فوسيل (صاحب كتاب "الليل: العيش بلا شاهد")، والذي يتحدّث عن الأرق وصعوبات النوم، خصوصاً وأنه يعاني شخصياً من هذه المشاكل، ما يدفعه، بحسب كلامه، إلى البحث عن "علاقة بالنوم لا تقوم على العبودية المرتبطة بدورة الجسد"، علاقة لا تنقسم فيها الحياة بين شطرٍ ليليّ وآخَر نهاريّ، بل يتّخذ فيها الجسد حرّيته في النوم أو الاستيقاظ متى ما احتاج إلى ذلك.
أمّا الباحثة سينتيا فلوري، فتركّز في المقابلة معها على كيفية تحويل الرأسمالية للنوم إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى في السوق، حيث ترى أن العقلية السائدة، خصوصاً في المجتمعات الغربية، جعلت من النوم موضوعاً يشبه الأداء، تماماً كما يجري الأمر في السنوات الأخيرة مع العمل ومع غيره من مجالات الحياة، حيث تُقاس الأمور بالإنتاجية (عدد الساعات والدقائق التي ننام فيها) بدلاً من أن تُفهَم كقسطٍ من الراحة يتغيّر بتغيّر حاجات الجسد.
بدورها، تقدّم الباحثة ناتالي ديبراز قراءة فلسفية في تنقّل الإنسان بين الصحو والنوم، حيث دخول عالَم الأحلام ليس "فِعلاً"، بل هو ظاهرةٌ لا تعتمد تماماً على إرادتنا، إذ يبدأ الجسد يفقد شيئاً فشيئاً قواه وقوامه الاعتيادي، ويخسر سلطته التي يتمتّع بها خلال ساعات اليقظة والانتباه.
كما يخصّص العدد قراءات في نصوص معروفة عن النوم، كتلك الصفحات التي يُفردها الفيلسوف إيمانويل ليفيناس للحظات التعب الذي يحلّ في آخر النهار ويسبق النوم، وكذلك للأرق، وضمن قراءته هذه يحضر النوم بوصفه طيّةً داخل الكينونة أو تعليقاً لها، دون أن يعني ذلك خروجاً منها؛ فالوعي سرعان ما يعود ليقود من جديد علاقة الإنسان بالعالم الذي يعيش فيه.