في الثالث من أيلول/ سبتمبر الجاري، توصّل فريق من الباحثين في "المعهد الوطني للتراث" (مؤسسة رسمية تابعة لوزارة الثقافة التونسية) إلى اكتشاف أثري في منطقة برج العامري (قرابة ثلاثين كيلومتراً غرب تونس العاصمة). بقي هذا الاكتشاف خبراً بين الباحثين قبل أن يجري الإعلان عنه في بيان رسمي من وزارة الثقافة في السابع عشر من الشهر الجاري.
بحسب تصريحات الباحثة في "المعهد الوطني للتراث"، منية العديلي، فقد جرى اكتشاف أربع قطع فسيفسائية تعود إلى العصر الروماني (الفترة بين 146 قبل الميلاد و431 بعده) من موقع "فورنوس مينوس" في برج العامري، وهو موقع يمسح قرابة عشرين هكتاراً. تعتبر الباحثة، في تصريحات لها لوسائل إعلام محلية، أنّه "من المرجّح أن تكون هذه القطع راجعة إلى منزل روماني مكوّن من طابقين، وقد تكون الحفريات التي عُثر عليها لأرضية مطبخ روماني، أو قاعة أكل بالمعلم الأثري غير واضح المعالم الهندسية". يُشار أن القطع المكتشفة حملت رسوماً وزخارف مختلفة نجد في أغلبها أزهاراً وفواكه، كما تضمّ أُخرى أشكالاً هندسية متنوّعة.
يفتح هذا الاكتشاف على فرضيات عدّة، منها أن البيت الذي ترجّح الباحثة تبعية القطع المكتفشة إليه قد لا يكون معزولاً، أي أنه ينتمي إلى بلدة من العصر الروماني، خصوصاً أن المنطقة كانت مرشّحة لكي تكون إحدى أكثر المناطق ثراء باللقى الرومانية، غير أن الأبحاث، في أحيان كثيرة، لم تؤدّ إلى اكتشافات مهمة.
تمثّل هذه الاكتشافات فرصة لحفظ الموقع من التمدّد العمراني للعاصمة
يُذكَر في هذ السياق، أن الحفريات في موقع فورنوس مينوس قد بدأت في نهاية القرن التاسع عشر مع علماء الآثار الفرنسيّين، وقد جرى التركيز وقتها على هذا الموقع بفضل خرائط المتخصّصين في التاريخ الروماني المتأخّر، كما شجّعهم اكتشاف لوحة فسيفسائية اشتهرت باسم "دانيال" في 1901 وتعدّ اليوم إحدى أهم القطع الأثرية في "متحف باردو" في تونس العاصمة، لكن بعد ذلك بدا الموقع وكأنه خيّب آمال الأثريين.
تأتي الاكتشافات الجديدة، لتضع موقع فورنوس مينوس في دائرة الضوء مجدّداً؛ فهو على قربه من تونس العاصمة شبه مجهول. ومن جهة أُخرى، تمثّل هذه الاكتشافات فرصة لحفظ أرض فورنوس مينوس التي ربما تؤوي أطلال مدينة كاملة من تهديدات عدّة. وهنا يمكن القول إنّ هذا الاكتشاف قد أتى في وقته، فمن المعلوم أن توسُّع مدينة تونس العمراني قد بدأ يلامس منذ سنوات منطقة برج العامري، وهو ما يعني ارتفاع القيمة العقارية للأراضي المحيطة بالموقع، وقد لا يعدم بعضُهم الحيلةَ لتحويله إلى مشاريع استثمارية، وذلك ليس ببعيد؛ فقد حدث الأمر ذاته مع أراض اعتُبرت أثرية في وقت من الأوقات ثم توفّرت التلاعبات القانونية التي أتاحت بناء تجمّعات سكنية تردم الآثار إلى الأبد.
حدث ذلك في أشهر المواقع الأثرية التونسية مثل قرطاج، ولا شيء يمنع من تكراره في برج العامري لولا انتباه الأثريين والمؤمنين بأهمية حماية التاريخ.