حتّى صباح الثلاثاء الماضي، كان فيليب جاكّوتّيه، في نظَر كثيرين، أبرز اسم شعريّ حيّ باللغة الفرنسية. اليوم، بعد مغادرته عالَمَنا، عن ستة وتسعين عاماً تقريباً (1925 ـ 2021)، لا يسع إلّا القول بأنّ مرحلةً من عمر القصيدة المعاصرة المكتوبة بالفرنسية قد اختُتمت. مرحلةٌ أضاءتها سلسلةٌ من القامات تبدأ بمواطنه ومعلّمه، السويسري غوستاف رو، وتمتدّ حتّى الفرنسي إيف بونفوا، الذي رحل قبل خمسة أعوام.
ليس في الحديث عن انتهاء زمَنٍ شعريّ برحيل جاكّوتّيه أيّةُ استعارة أو مبالغة ـ أو هذا على الأقلّ ما نعتقده. كان الشاعر السويسري من القلائل الذين منحوا القصيدة المكتوبة بالفرنسية اسمَها في النصف الثاني من القرن العشرين، والذين شغَلوا مساحات واسعة من الفضاء الأدبيّ الفرانكفوني بقصائدهم ونصوصهم السردية وترجماتهم. بعبارةٍ أُخرى، كان لهذا المشهد الأدبيّ أن يأخذ ملمحاً مختلفاً في الأغلب، لولا هذه الحفنة من التجارب الأساسية والمؤسِّسة، التي كانت تجربة الشاعر السويسري من بينها.
بين "البومة وقصائد أخرى"، مجموعته الشعرية الصادرة عام 1953، و"كتاب المادريغال الأخير"، الذي يصدر هذا الخميس، لدى "منشورات غاليمار"، مع كتاب ملاحظاتٍ حول دَير لا كلارتيه نوتردام الواقع قرب مكان سكنه، في قرية غرينيان، جنوب شرق فرنسا، وقّع جاكّوتّيه أكثر من سبعين عنواناً بين شعر ونثر ويوميّات ومحاولةٍ وترجمة. لكنّ الشِّعر ظلّ محوَر هذه التجربة التي استمرّت نحو سبعة عقود، بحيث تفضي إلى القصيدة، أو تأخذ منها أفقاً، أغلبُ الأعمال التي وضعها الراحل. تُستثنى من هذا، ربّما، ترجمته الفريدة لأعمال روبرت موزيل السردية ولبعض الروايات، والتي وضعها في بدايات تجربته، في وقتٍ كان العمل الترجميّ يمثّل مصدر دخله الأساسي.
لم يكن راضياً عن بداياته وانشغاله بالصّوَر والاستعارات
شكّلت "البومة وقصائد أخرى"، ومن بعدها "الجاهِل" (1958)، الباب الذي دخل منه جاكّوتّيه المشهد الشعريّ الفرانكفوني. كان الشاب السويسري قد غادر توّاً باريس، التي أقام ستّ سنواتٍ فيها، قادماً من لوزان (وُلد في مدينة مودون، غرب سويسرا)، وعايش غليانها الإبداعيّ والفكريّ كمترجمٍ وشاعر صاعد. فضّل الابتعاد عن صخَب العاصمة وسُلطة أسمائها اللامعة، واختار قرية غرينيان في إقليم دروم، التي كان هدوؤها وطبيعتها ومساحتها الصغيرة أنسبَ ــ كما يقول في إحدى مقابلاته ــ لهشاشته، ولاستمرارية عمله بعيداً عن تأثيرات العاصمة الفرنسيّة ونجومِها. لكنّ أصداء صداقاته الباريسية العابرة، والنقاشات التي اكتشفها هناك حول القصيدة وطبيعة الشعر، ستبقى حاضرةً في هاتين المجموعتين، المشغولتين بحِرفيّة صانعٍ يعتني بالصوَر والاستعارات والبلاغة.
سيكون على الشاعر الانتظار بضع سنوات لتخليص قصيدته ممّا سيصفه لاحقاً بـ"القشور" و"الأقنعة"، تلك التي كانت تَحُوْل دون وصوله إلى ما يصفه بالحقيقة: الحقيقة الشعرية أو حقيقة التجربة. مجموعته "دروس"، أو "عِبَر" (1969) تمثّل وثيقةً حول هذا التغيّر، الذي لم يجرِ بشكل غير واعٍ، بل كان حصيلة انتباه الشاعر وعدم رضاه عن بداياته. في القصيدة التي تفتتح هذه المجموعة، يستحضر جاكّوتّيه تلك البدايات المأخوذة بالبلاغة والصّنعة: "قديماً/ زعمتُ أنّني دليلُ المحتضَرين والموتى/ أنا الخائف، الجاهِل، الحيّ بالكاد/ أنا الذي بالصُّوَر كنتُ أغطّي عينيّ". وهو إذ يتحدّث، هنا، عن الخائف والجاهل، فإنه يحيل إلى عنوانَيْ مجموعتيه الأوليَيْن، حيث يكفي، في الفرنسية، تحويل كلمة بومة (L'effraie) إلى صيغة الماضي (L'effrayé) لتعني "خائف" أو "مذعور". ويُنهي الشاعر هذه القصيدة بالقول: "الآن وقد خبَأَ المصباح/ وباتت اليدُ أكثر تِيهاً وارتجافاً/ أعود مرّة أخرى، ببطء، إلى الريح".
هذه النقلة، المسنودة بإقامة الشاعر في بلدةٍ محاطة بالطبيعة وبساطتها ــ لن تكفّ أعمال جاكّوتّيه اللاحقة عن التذكير بها، وعن التفكير بانشغاله سابقاً بالقشور بدلاً من اللبّ: بدءاً من "تضاريس بأشكال غائبة"، الذي أصدره في العام التالي (1970)، وبدأتْ فيه كتابتُه بالانشغال بالفوريّ والمحسوس، أي بما تراه العينان ويحسّ به الجِلدُ والأنفُ الآن وهنا، وحتّى المختارات التي وضعها بنفسه، وصدرت عام 2011 لدى منشورات "غاليمار"، بعنوان "سيكون الحِبرُ ظلّاً ــ ملاحظات ونثر وقصائد، 1946 ـ 2008".
كلّ شعرية جاكوتيه تقيم في الخروج من البهرجة إلى الخفوت
في هذه المختارات، المؤلّفة في جزء كبير منها من مقتطفات، لا مِن قصائد كاملة، لم يضمّ جاكّوتّيه من بداياته إلّا مقاطع يغيب فيها، نسبياً، عمَلُ ما يسمّيه الفلاسفة بالفاهمة. أي يغيب فيها الذكاء، أو التذاكي بالأحرى، وكذلك الاجتهاد؛ وتغيب العقلنة ومعها الصنعة وعناصرها. منذ 1969، إذاً، كفّت قصيدة فيليب جاكّوتّيه عن كونها مشغلاً ضيّقاً للحِرفة. خرجت إلى الواقع الذي جاءت منه. اتّسعت، بتعبير الناقد والشاعر الفرنسي جان كريستوف بايّي، وصارت مساحةً هائلةً تضمّ ما كان سابقاً لا يُعتبَر شعراً. وهذا ما يجعل ملاحظات الشاعر السويسري ويومياته ونصوصه السردية، بل وحتّى بعض مقالاته، تبدو شعراً بحدّ ذاتها، كما هو حال سلسلة يوميّات "البذار"، في أجزائها الثلاثة، التي تغطّي نحو خمسين عاماً (1954 ـ 2001)، أو "دفتر الخَضار" (1990).
وعلى أيّ حال، ليست هذه النقلة، من الاستعاراتيّ والصُّوَريّ إلى المحسوس والفوريّ، بتفصيلٍ نُبالغ في الإطالة بالوقوف عنده. على العكس. ربّما أمكن القول إن كلّ شعر فيليب جاكّوتّيه، أو شعريّته، تقيم في هذه الحركة، في هذا الخروج من البهرجة إلى الخفوت، ومن اللعب بالكلمات على أرضٍ من المخيّلة إلى استضافة التجربة الآنية في القصيدة. إنّها تكمن، بعبارة أخرى، في التوقّف عن القفز، ذلك القفز الذي يرى جورجيو أغامبن أنّه ميزة الشعر (الكلاسيكي)، وفي انحنائها أكثر نحو الأرض، مقتربةً منها ومن عناصرها، من حفيفها الخفيف، بقليلٍ من الحركة، أو بلا حركة ربّما: الأرض وحدها تتحرّك، أحياؤها وأشياؤها تتحرّك أو تبقى ساكنة، والشاعر يسجّل.