"فيما تُمعن فيك الأشياء العادية" لأصالة لمع: فردٌ يتّسع بمُمكناته

07 يوليو 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **استلهام الفنون الأخرى**: في ديوانها "فيما تمعن فيك الأشياء العادية"، تستلهم أصالة لمع من الفنون الأخرى لتصوير الحياة العادية، مركزة على الحياة الداخلية والرغبات المتضاربة، وتستخدم الفن لمواجهة الرتابة والقيود الزمنية.

- **الخيال كأداة مركزية**: الخيال في ديوانها ليس هروباً من الواقع، بل وسيلة لإعادة تركيب الذكريات، معبرًا عن الحنين والذكريات التي تتفوق في جمالها على الواقع، كما في قصيدتها "النجوم في لوحة فان جوخ".

- **الشعر كتجربة وجدانية جماعية**: ديوانها الثاني يعبر عن اضطراب الشعور وتناقض الرغبات المشتركة بين البشر، محاولاً إشراك الآخرين في تجربتها، مما يجعل شعرها إشارة لمواجهة مشقة الاغتراب ووحشة الحياة اليومية.

قصائد الشاعرة اللبنانية أصالة لمع (1989) بحثٌ دائبٌ عن مرجعية تراها في فنون أُخرى، أو تستقيها وتستلهمها من فنون أُخرى، ثمّ ترمي بها إلى الحياة العادية. والعادي هنا في مجموعة "فيما تمعن فيك الأشياء العادية"، الصادرة عن "منشورات المتوسّط" (2023)، ليست قصيدة اليوميات بالصورة التي عرفناها انشغالاً بما هو رتيب وثابت ومتواتر، وإنَّما هو تلك الحياة الداخلية التي تختلط فيها الرغبات بلا توقّف، فالقصائد تُشهر رؤيتها القادمة من الفنّ والممثّلة للفنّ في وجه المحدود والمقيَّد.

واختلاط الحواس الذي تفيض به النصوص رجعٌ لتلك الحياة التي يصوّرها الفن، رجعٌ لتلك الصورة المثالية التي يحملها الفنّ عن الوجود. كما لو أنّ شِعرها يقتصّ من الحواس العادية، كما لو أنّ إمعاناً مثالياً يريد أن ينفد داخل إمعان آخر مبتذل، وقد ابتذلته الرتابة. لكنّ كليهما حائر. وقصيدة لمع تصوير لتلك الحيرة، ورجعٌ لتلك العلاقة التي تلوب من غير أن تهدأ بين ما تخبرنا إياه الفنون باعتبارها خرجت عن سلطة الزمن، وما نعرفه عن الحياة العادية باعتبارها خاضعةً لسلطة الزمن والممكن.

بهذه الصورة، عبارتها الشعرية مضبوطة بين قوّتين، إحداها تريدُ أن تخلقَ معنىً جديداً، أن تكون ابتكاراً، وأُخرى تركن إلى قول يشبه الحديث العابر. وعلى هذا النحو، تُصوّر الشاعرة الخيال باعتباره نجاةً في مطلع الديوان، إلّا أنّه في نصوص أُخرى يكون عائقاً وقيداً يَحجب المرء عن حواسه المضطربة، وعن يومياته التي أرادها أن تستمرّ عادية، لكنّ العادي شَقّ عليه. والشاعرة تريد أن تنفي الذاكرة، وأن تنهل من بياض وعدم، ومن خلاء. تريد أن تقتص من خيالها الذي يعود بها إلى ماض مفقود، إلى مكان مفتقَد، وإلى بشر مفتقَدين، وإلى مشاعر مفقودة أو منتزعة منها أو متعذّرة عليها.

إشارةٌ يطلقها أحدهم وهو على التلّ ليُخبر الآخرين بوجوده

الخيال، بهذا، إحدى المفردات التي تمكن قراءة القصائد بالاستعانة به، فهو أقرب لأن يكون زاد طريق، زاداً لمهاجر ترك مكان طفولته، وأخذ يعيد تركيبه على طول الرحلة. حتى إنّ الخيال في الديوان أحد العاديات لمرّات تكراره كما في نصوص مثل "طرقات لخيال واحد" و"الذاكرة تعيق الخيال". ونقرأ أيضاً في قصيدتها "اترك القطار يغادر":

"لا تحزنْ على شيء
سوى الحكاية
التي لم ينجُ فيها أحد
حتَّى الخيال
حتَّى أنت.
امشِ، امشِ
كأنَّكَ غيرُ مَرئيٍّ،
كأنَّكَ صرتَ أقلَّ كثافة
من أنْ تصطدمَ بشيء
أو أحد
امشِ ولا تتوقَّفْ
بين أشجارٍ تفقدُ أوراقَها".

أمّا بخصوص المرجعية التي تبحث عنها القصائد، وبخصوص تلك الحاجة التي يلمسها القارئ لإسنادِ ما هو مكتوب إلى تجربة حيّة، أو بإسناد المكتوب إلى تجربة متخيّلة أو تجربة مرجوّة، حتى بخصوص تلك الحيرة التي تظهر أصيلة، وكأنَّها بذاتها الموضوع الذي تدور حوله القصائد كلّها؛ ربما تكون قصيدتها "النجوم في لوحة فان جوخ" القصيدة المثالية لتنوب عن المجموعة الشعرية كاملةً بما فيها من قلق وارتباك وتردُّد يشبه كتابةَ سطر ثمّ محوه. استعارة أستلفها بدوري من قصيدة بشارة الخوري (1890 - 1964) المغنّاة "يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا... كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا". ديوان الشاعرة اللبنانية أمثل تعبير لبيت الشعر اللبناني، إلّا أنّ العاشق هنا؛ صوتٌ مُفرد. وقصارى جهد الشاعرة أن تقسر هذا الصوت على الصمت، فقولها متردّد وحائر. وكأنَّما الريح تحمله، لا الكلمات. قصائد كثيرة تُصوّر هذا مثل "قلق" و"تيه"، إلا أنَّنا نقرأ في قصيدتها "النجوم في لوحة فان جوخ":

"النجومُ
في لوحةِ فان جوخ
أجملُ من النجوم
في السماء

الذكرى
التي تختالُ في بالِ الرَّجلِ الآن
وتكادُ تقتلُهُ حنيناً
أجمل
ممَّ حدثَ له فعلاً
لكنَّهُ لم يَعُدْ يُدركُ ذلك

وهذا الظِّلُّ في المساء
خلفَ ستارةٍ مُغلقة
كيف صارَ أشدَّ فتنة
من جسدِ تلكَ المرأة
الذي يذوبُ في اللَّيل؟

نظرةُ الرَّجلِ الجالسِ على الطاولة
كانتْ أجملَ من عينَيْه
والفتاةُ في عينَيْه
كانتْ أجمل
ممَّ هي عليهِ فعلاً

***

أريدُ الآن
أنْ أنام
هل يكونُ النوم
أجملَ
من هذا النُّعاس؟".

الديوان هو الثاني للشاعرة، وقد صدر كتابُها الأوّل "التفاتة نحو نغمة خافتة" عن "دار أثر" عام 2022. والشعر لديها أقرب لأن يكون بالسلوى الوجدانية التي تلمس اضطراب الشعور، وتناقضُ الرغبات، والتيه الذي يسم معظم نصوص الكتاب، تُصوّره كما لو أنَّه سمة يتقاسمها بشرٌ عديدون، أو سمة يقاسي منها بشرٌ عديدون، بل هي سمة يتقاسمها البشر جميعاً في وعي جماعي عن خلوّ العيش العادي من المعنى، وعن قصور المخيّلة عن أن تحلّ مكان الحياة العادية نفسها. ولمع تقول هذا في نصوصها، الشعر لديها تجربة فردية تطوي تجارب آخرين بلغتها وباتّقاد كلماتها وبيأسها الذي لا ترجو صلاحه. نقرأ من قصيدة "لست وحدك":

"لستَ وحدَك،
والمُشاةُ يعبرون بك
كأنَّكَ ظلٌّ غريبٌ
انفصلَ عن جسدٍ كانَ لك،

لستَ وحدَكَ
حين تتبعُ الطريقَ كأعمى،
تهتدي بصوتٍ خفيّ
يناديكَ باسمٍ لم تَعُدْ تعرفُه،
ولستَ وحدَك،
مَن توجعُهُ عزلةُ الأصابع
وأشواكُ الوردِ في الجِلْد
وهذه الشِّباكُ المغبرَّة
التي ينسجُها عنكبوتٌ أسودُ كلَّ ليلة
في صدرِه".

حتى إنّ لمع لا تستخدم اللغة كي تُقتِّر ما تجهل، بل تستخدمها كي تراكم ما تجهل، كي تُعدِّد احتمالات وكي تُنوّع أسئلة؛ كما في قصائد "ثنائيات" و"أغنية واحدة للشاعر والقتيل" و"ما أجمل ما لم/ لن يحدث". قصائدها تنويعٌ على الإيهام الذي يفتك بالعيش. كما لو أنّ تلك التجربة المشتركة التي تنقلها في قصائدها ليست إلّا تأويل أدوار، ليست إلا تقليب أدوار، ليست إلّا فرداً يحاول أن يتّسع بممكناته. نقرأ في قصيدتها "أغنية واحدة للشاعر والقتيل":

"الوردةُ التي يتبادلُها العشَّاق، هي نفسُها تُزَيِّنُ القبور.
الأُغنيَّةُ التي يحبُّها الشّاعر، يَسمعُها في هذه اللّحظةِ قاتلٌ لم يعرفْ 
يوماً ما هو الحُبّ.
المطرُ الذي يُوقِظُ بذرةَ القمحِ ويُفرِحُ قلبَ الفلّاح، يُغرِقُ بلا جهدِ
خيمةِ اللاجئِ التي بلا سقف".

أخيراً، ما يجمع القصائد، عدا وجدانية الموضوعات، هو ذلك الميل الذي للشاعرة لأن تجعل من قولها قولاً يسعى لأن يُشرك آخرين، وكأنّما الشعر، بالطريقة التي تكتبه بها وبالموضوعات التي تختارها، ليس تعبيراً لغوياً مجرَّداً ومغلقاً؛ بقدر ما هو إشارة يطلقها أحدُهم وهو على التلّ؛ ليُخبر آخرين عن وجوده، وليعرفوا بدورهم - وهُم على تلالهم - أنّهم ليسوا بمفردهم يقاسون مشقّة الاغتراب ووحشة اليومي والعادي.


* روائي من سورية

المساهمون