منذُ وقتٍ طويلٍ وأطروحة أنّ الغرب بلا أخلاق، وحضارته ماديّة بامتياز، تُلاقي رواجاً كبيراً في العالم العربي والإسلامي. ربّما من أوائل مَن بدأوا هذا الطرح كان حسن البنّا في "الرسائل"، حيثُ تطغى على خطابهِ فكرة أن الغرب مغمورٌ بالماديّة، بينما العالم الإسلامي وحضارة الإسلام هي، بالدرجة الأولى، حضارة أخلاق وسموّ روحيّ.
أخذت هذه الفكرة طابعاً أشدَّ صرامةً في كتابات سيّد قطب. فقد قسّم قطب العالم إلى فسطاطين: فسطاط الحقّ والنور، وفسطاط الفساد والانحطاط الأخلاقي. ولقد أصبح هذا الخطاب أحد الأعمدة الرئيسية للحركات الإسلاميّة. وهكذا صارت هذه الفكّرة، الاستعلائية بالأساس، ركيزةً أساسية من ركائز الفكر الإسلامويّ، وكذلك لدى بعض المفكّرين مثل طه عبد الرحمن في المغرب، حيثُ أحد ركائز فكر هذا الرجل ــ غزير الإنتاج والمُلفت للانتباه حقّاً ــ أنّه لا بدَّ من العودة إلى الأخلاقيات المستمدّة من الإسلام، وخصوصاً من الجانب الروحي والصوفي فيه، فهو من بيئة تشرّبت الطقوس والخطاب الصوفي.
وبشكلٍ لافتٍ أيضاً، تبنّى هذه الفكرة الأكاديمي الفلسطيني في "جامعة كولومبيا" وائل حلّاق، وأصبحت العمود الفقري لمشروعة الفكري. إذ يرى أن حضارة الإسلام، والشريعة الإسلامية على وجه الخصوص، هي بؤرة أخلاق فيها معايير وضوابط تنظّم حياة الأفراد والمجتمع بشكلٍ يتعارض تماماً مع النظم الرأسمالية المادّية الجشعة، حيثُ لا وجود لإطار أخلاقيّ واضح يعلو على منطق السوق والسلعة والتبادلية المحدودة.
لا دولة ولا حضارة تحتكر الأخلاق التي هي ميراثٌ إنساني
ووائل حلّاق من أكثر المتحدّثين الآنفُ ذكرهم من حيث تعمّقه في هذا الموضوع والتأكيد على الأخلاق في الإطار الإسلامي، فهو كاتبٌ ومفكّرٌ رصين، وباحث، وليس دوغمائياً عشوائياً يُطلق التصريحات والمواعظ على عواهنها. كتابه "الدولة المستحيلة" غنيّ بالمراجعات الفكريّة والدقّة والأطروحات المثيرة، وخصوصاً فيما يتعلّق بأنّ فكرة الدولة الإسلامية غير ممكنة لأنها تتعارض مع مفهوم الدولة الحديث، ذي الأسس العلمانية، بينما الشريعة الإسلامية هي مصدر أخلاق، وليست اِطاراً سياسيّاً يؤدّي إلى دولة كتلك التي استُحدثت في الغرب وتمَّ استنساخها في مناطق كثيرة من العالم، ولا سيما العالم العربي الذي كان أغلبه تحت الحُكم العثماني حتى القرن القرن العشرين.
ما سبق يحيلني إلى فكرتين متناقضتين، أوّلهما أنّه من اللافت حقّاً للنظر أنّ هناك نماذجَ حُكم في التاريخ الإسلامي القديم يتجلّى فيها دور الأخلاق في الحُكم، وخصوصاً تجاه مَن عُرفوا بأهل الذمّة، أي اليهود والمسيحيين. فهؤلاء عاشوا في كنف الخلافة الإسلاميّة، وتمَّ وضع ضوابط تنظّم حياتهم، وقد وُفِّقَ كثيرٌ منهم وازدهروا تحت ظلِّ حُكم إسلامي تضبطه الشريعة الإسلامية، وتنظّم العلاقات بين الناس على أُسُس العدل. وهناك أمثلة عظيمة تُبرز دور الأخلاق الإسلامية في الحكم الصالح والعفو، ومنها كيفية تعامل الخليفة عمر بن الخطّاب حين دخلَ جيشُه القدس، وكذلك صلاح الدين الأيّوبي حين حرّر المدينة من الصليبيين، حيث غفرَ لكلِّ سكان المدينة، وسمح للجميع بممارسة شعائرهم، بالرغم من الدمار الهائل والمجازر الرهيبة التي ارتكبها الصليبيّون في القدس ضدَّ المسلمين واليهود وبعض السكّان المسيحيين الذين لم يتعاونوا معهم.
وينطبق الأمر على حياة الناس، رغم اختلاف عقائدهم تحت ظلّ الحُكم الإسلامي في الأندلس لقرونٍ عديدة امتدّت من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر تقريباً؛ كان يسودُ تلك الفترةَ العدلُ والإحسان والانفتاح أيضاً في ظلِّ نظام إسلامي اتّسَمَ برفعة أخلاقه وسموّ مآربه. ومن الجدير بالذكر هنا أنّه من اللافت للنظر أنّ الذي ارتكبَ مجازر بشعة بحقّ السكّان الأصليين هم الصليبيّون، وقد تمَّ التخطيط لهذه المجازر ومُباركتها من أعلى السلطات الدينية والسياسية في ذلك الوقت، بخطابٍ دمويّ استئصاليّ غاية في البشاعة والتوحش. فقد استحدثَ الصليبيّون، وبعدهم المغول، فكرة إبادة السكّان الأصليين واستبدالهم بسكّان آخرين، مستعمرِين متوحّشين.
وحين نتقدّم إلى العصور الحديثة نجدُ كثيراً من الإبادات والفظائع الأوروبية، على طريقة هتلر مثلاً، والآن الصهيونية في فلسطين، وهي فكرة وحدثٌ أوروبي غربيّ بامتياز، وهي بالطبع دنيئة خُلُقاً وأخلاقاً. إذاً، من الصعب الدفاع عن أوروبا والنماذج الغربية من ناحية الأخلاق، ولكنّ الحضارة الغربية متنوّعة وليست متجانسة، وكذلك الحياة الغربية. ومن الخطأ النظر إلى الحضارة الأوربية من منظور السياسة فقط، على أهمّية الأخيرة. من الخطأ تجاوُز أو التقليل من شأن العُلوم والفنون والتقدّم الطبّي والإبداعات الأدبية والفنية، وعدم ربطها ببعض نماذج التفكير الخلّاق في أوروبا.
وأيضاً من الخطأ أن نرى أنّ التاريخ الإسلامي والشريعة وكأنها وُجدتْ في بيئة خالية من النزاع والصراعات، وكأنها متجانسة. ومن الخطأ إنكار أن العالم العربي مشتّت اليوم، ويفتقد إلى الأخلاق في كثيرٍ من الجوانب، وخصوصاً السياسية. إذاً، لماذا التعالي على الغرب بادّعاءات أخلاقية غير موجودة في جلّها، وخصوصاً في يومنا هذا؟ من الضروري، بل من العدْل، أن ندرس التاريخ والحياة الأوروبية من جهةٍ، وكذلك العربية والإسلامية من جهةٍ أخرى، على أنها وليدة تجلّيات وسياقات متعدّدة، وأنّها متعددة، وأن لا جنس ولا دولة ولا حضارة تحتكرُ الأخلاق، فالأخلاق ميراثٌ إنساني في المحصّلة، والروحانيات أيضاً، وذلك لتداخل الديانات التوحيدية ببعضها البعض، وكذلك المواريث الإنسانية.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن