استمع إلى الملخص
- تتطلب الكتابة إقصاء الخوف والعقل، وترك المجال للحلم والحدس، حيث يمكن أن تقود إلى أماكن غير متوقعة، مع أهمية قبول الأخطاء كجزء من التعبير الحقيقي.
- الكتابة رحلة مستمرة، حيث يعيد الكاتب والنص صياغة بعضهما البعض، وهي تماس مع اللاوعي، تعيد تشكيل الذات وتزيد الكاتب ضوءًا.
أن تكتب، هو أن تبدأ، وليُكن البدء كما يقول هنري ميلر من أيّ مكان، والتوقّف أيضاً في أيّ مكان، لأنّ الكتابة تحرّرت من الأشكال المُسبقة، تحرّرت من القواعد. صار النصُّ يُبدع قواعده.
أن تكتب هو أن تستمرّ، ولتستمرّ لا بُدّ من إقصاء الخوف، ولا بدّ من التحرّر من القلق، والتحرّر أيضاً وبالدرجة الأُولى من تحكّم الرقيب. الرقيب الذي هو ظلّك، أناك الأُخرى، الأنا المستبدّة التي شكّلتها التربية الأُولى. والتي نقضي حياتنا في محاربتها والتحرّر من براثنها اللامرئية.
لذلك تتطلّب الكتابةُ الشجاعةَ لمواجهة تلك الأنا المستبدّة، التي في محاربتها والتحرّر منها تكون قد ظفرت بأناك الحقيقية؛ بصوت الطفل المقموع الثاوي في أعماقك، صوتك الخاص الذي ظللت تتجنّب الإصداع به، والذي كتمته أشكال التربية التي تُدجّن الإنسان. التدجين الذي يجري بوسائل عديدة من إيحاء وتكرار؛ بخاصّة من خلال أشكال العقاب النفسي والجسدي، بهدف وضع الإنسان في القالب المجتمعي. إنّه القتل المعنوي المبكّر لأناك المبدعة. بهذا المعنى، الكتابة طاقة، ونشدان لا واعٍ للتحرّر من هذا القالب.
لتستمرّ لابدّ أيضاً من إقصاء العقل، وترك المجال للحُلم وللحدس وللإبحار، وللعب. وكما يقول الرسّام الأميركي جاكسون بولوك: "للرسم حياته الخاصّة؛ اتركها تنبجس". وهذا يصحّ على النصوص أيضاً. اترُك النصّ ينبجس.
أن تكتب هو أن تستمرّ، ولتستمرّ لا بُدّ من إقصاء الخوف
في هذا السياق نفسه، يقول الفيلسوف الفرنسي آلان (1868 - 1951): "فنّ الكتابة يسبق الفكر". الكتابة هي أن تترك السيلان الكتابي يمضي بك حيث يريد هو، وليس حسب ما خطّطت له، لأنّ في الإبداع قد تنتهي إلى مكان لم تفكّر فيه ولم تُخطّط له. كان بيكاسو يبدأ بفكرة ثمّ، كما يقول، تصير شيئاً آخر... بعد سنوات يُكرّر الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين هذه المقولة، ولكن في ميدان الكتابة: "ستكون الكتابة شديدة الكآبة إذا لم تَحِد أبداً عن خطتك".
لتستمرّ في الكتابة اترُك مجالاً للخطأ، لأنّ ما يبدو خطأً ربما هو الأكثر تعبيراً عن حقيقتنا الداخلية العميقة، لأنّه لا يوجد شيء لا يعني شيئاً. لا توجد كلمة ليس لها مبرّرها في الداخل؛ وهذا ما جعل السرياليّين يخطّون الكلمات التي تترى لهم ومن دون رقيب، أو ما يسمّونه الكتابة الآلية. وقد اختزل مايلز دافيس، الفنّان الأميركي الملقّب بـ"بيكاسو الموسيقى"، الأمر بقوله: "لا تخَف من الأخطاء، فالأخطاء غير موجودة".
أن تكتب هو أن تمضي ثم تمضي ثم تمضي؛ لا تتوقّف لأنّ في الكتابة شيئاً من السفر حيث الهدف لا يكمن في الوصول، وإنّما يتمثّل الهدف في السفر نفسه. وفي الكتابة كما في السفر أنت تواجه المجهول وغير المتوقَّع.
أيضاً: ثمّة علاقة جدلية مع الكتابة. أنت تصيغ النص وما تكتبه يعيد صياغتك أنت. والكتابة إبداع مزدوج. لأنّه، وأثناء ممارسة الكتابة وعبرها، نعيد صياغة أنفسنا. والكتابة احتراق، وأن تُبعث من رمادك بعد ذلك حسب سندرار، والكتابة هي أن تدخل إلى الغرفة المحرّمة في قصور ألف ليلة وليلة السحرية ولا تخرج. هي تماس مع اللاوعي، تماس مع عالم الدياجير الذي - ويا للمفارقة - يزيدك ضوءاً. إنّها الإصغاء للصوت الإلهي في أعماقنا.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام